شهد الاقتصاد العالمي طفرة غير مسبوقة في الإنفاق على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وهي موجة استثمارية تُقدر بتريليونات الدولارات وتهدف إلى إعادة تشكيل المستقبل التقني. غير أن هذه الطفرة، التي تُقارن بالفعل بفقاعة "الدوت كوم" التي انفجرت في مطلع الألفية، لم تعد قائمة على التدفقات النقدية وحدها، بل أصبحت مُغذية بالديون بشكل متزايد.
وفي تحذير صارخ أطلقته إحدى أهم المؤسسات المالية العالمية، دق بنك إنجلترا ناقوس الخطر مشيراً إلى أن التجاوزات الكبيرة في تقييمات أسهم الذكاء الاصطناعي وارتفاع إصدارات ديون الشركات في هذا القطاع، قد تدفع النظام المالي بأكمله نحو نقطة انعطاف خطيرة. هذا التمويل المكثف يهدد بتحويل مصدر النمو التكنولوجي إلى بؤرة لأزمة مالية محتملة.
فهل أصبح الانهيار أمراً وشيكاً في ظل المؤشرات المبكرة لارتفاع مخاطر الائتمان؟ وكيف يمكن أن يمتد تصحيح أسهم الذكاء الاصطناعي ليهدد بشكل مُباشر استقرار أسواق الدين العالمية الأوسع؟
ففي خطوة تؤكد المخاوف المتصاعدة بشأن استدامة طفرة الذكاء الاصطناعي، حذّر بنك إنجلترا من أن موجة الإنفاق على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، والتي تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات ويتم تمويلها بالديون، تواجه خطر الانهيار، وذلك لوجود "تجاوزات كبيرة مادية" في تقييمات أسواق الأسهم، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأكد البنك المركزي البريطاني أن أي تصحيح حاد يطال أسهم شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى سيكون له تداعيات واسعة النطاق، تمتد إلى أسواق الدين العالمية الأوسع.
ويُرجع التقرير هذه المخاوف إلى تحوّل نوعي في مصادر التمويل، فبينما كان الاستثمار في التكنولوجيا يعتمد نقداً على "الشركات العملاقة السحابية" (hyperscalers)، يُتوقع أن يتم تمويل حوالي نصف مبلغ الـ 5 تريليونات دولار المتوقع إنفاقه على الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الخمس المقبلة بشكل خارجي، غالبيته عبر الديون.
وقد أشار بنك إنجلترا إلى أن "تمويل تطوير الذكاء الاصطناعي يصل إلى نقطة انعطاف"، محذراً من أن وقوع خسائر ائتمانية جوهرية، مباشرة أو غير مباشرة، يمكن أن يؤدي إلى تداعيات سلبية على شروط الائتمان الأوسع، بما في ذلك المملكة المتحدة.
وقد استند البنك في تحذيره إلى مؤشرات إنذار مُبكرة، أبرزها اتساع هوامش عقود مقايضة التخلف عن سداد الائتمان (CDS) لشركة أوراكل (Oracle) بشكل لافت، حيث قفزت من أقل من 40 نقطة أساس إلى حوالي 120 نقطة أساس منذ نهاية يوليو الماضي.
وتُعد أوراكل، التي أصدرت كميات كبيرة من الديون لتمويل بنيتها التحتية للذكاء الاصطناعي، مقياساً لخطر الذكاء الاصطناعي، في تناقض واضح مع استقرار هوامش الائتمان للشركات الأميركية الكبرى من الدرجة الاستثمارية عموماً.
وقد لفت التقرير إلى أن هذا التحذير يتشابه مع المخاوف التي سبقت انهيار فقاعة "الدوت كوم" في عام 2000.
كما سلّط التقرير الضوء على الدور المحوري لشركات مثل إنفيديا (Nvidia)، وهي الشركة الأكثر قيمة في العالم بقيمة سوقية تبلغ 4.37 تريليون دولار. وقد أسهمت مكاسب هذه الشركات، مدفوعة بالطلب على الرقائق اللازمة لنماذج الذكاء الاصطناعي، في دفع ثلثي مكاسب مؤشر S&P 500 هذا العام.
وحذّر بنك إنجلترا من أن الانهيار المحتمل للتقييمات المرتفعة قد يؤدي إلى خسائر في الإقراض للشركات المستثمرة في الذكاء الاصطناعي، ويرفع تكاليف الاقتراض بشكل عام، بل ويؤثر على ثروة الأسر والإنفاق الاستهلاكي في المملكة المتحدة.
تقييمات الذكاء الاصطناعي تلامس فقاعة "الدوت كوم"
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" يقول عاصم جلال استشاري العلوم الادارية وتكنولوجيا المعلومات في "G&K": "تُطلق طفرة الذكاء الاصطناعي الحالية، التي تجسدها شبكة معقدة من الاستثمارات والصفقات الضخمة بين عمالقة مثل OpenAI وNvidia وشركائهم، تحذيرات قوية من بنك إنجلترا باقتراب الأسواق العالمية من تصحيح حاد".
ويرى جلال أن هذا الارتفاع القياسي في التقييمات، الذي دفع بنسبة السعر إلى الأرباح لمؤشر S&P 500 إلى مستويات تقارب ذروة فقاعة "الدوت كوم" (فوق 40)، يهدد الاستقرار المالي العالمي. وقال: "ويكمن الخطر المنهجي في أن هذا الجنون الاستثماري، الذي يُقدر إنفاقه على البنية التحتية بأكثر من 5 تريليونات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، يعتمد بشكل متزايد على التمويل الخارجي".
وتشير التقديرات إلى أن نصف هذا المبلغ تقريباً يمول بالديون، بما في ذلك نحو 1.5 تريليون دولار فجوة تمويل مراكز البيانات، مما يزيد من انكشاف أسواق الائتمان الخاصة وعالية المخاطر، ويضع النظام المالي العالمي على حافة اختبار جديد، بحسب تعبيره.
ومع ذلك، يرى جلال أنه على الرغم من هذه المخاطر المالية القصيرة الأجل، يحمل الذكاء الاصطناعي قيمة استراتيجية طويلة المدى لا يمكن إنكارها، إذ تتوقع دراسات أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 15بالمئة بحلول عام 2035.
وأضاف: "لكن المفارقة تكمن في أن التقييمات المرتفعة تستند إلى أرباح بعيدة، بينما لم تحقق 95 بالمئة من مشاريع الذكاء التوليدي في عالم الشركات أي ربح يذكر بعد. ورغم أن طفرة الذكاء الاصطناعي تشبه "الدوت كوم" في حماس المستثمرين، فهي تختلف جوهرياً في أن عمالقة السوق الحاليين (مثل شركات "السبعة الرائعون") يتمتعون بتدفقات نقدية حرة قوية، مما يجعلهم أكثر حصانة من الانهيار الشامل الذي شهدته فقاعة عام 2000.
الخطر الحقيقي: فقاعة ديون البنية التحتية
ويؤكد استشاري العلوم الادارية وتكنولوجيا المعلومات في "G&K" جلال أن الخطر ليس في أسهم الشركات العملاقة بقدر ما هو في فقاعة الدين المرتبطة بتمويل البنية التحتية، حيث بلغ إجمالي ديون الموردين الرئيسيين لشركات مثل OpenAI حوالي 96 مليار دولار.
وختم بأن "انهيار هذه الديون، الذي يعكس سوء تخصيص لرأس المال، هو ما يمكن أن يخنق الإنفاق الرأسمالي المستقبلي ويحول الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي إلى أزمة ائتمانية خانقة".
الاقتراض القياسي يعيد تشكيل أسواق الائتمان
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن عام 2025 يُمثل نقطة تحول جذرية حيث انتهى عصر التمويل النقدي لشركات التكنولوجيا، وأصبحت الأصول الضخمة مثل مراكز البيانات تُحددها سلسلة سببية جديدة قوامها تسارع سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي الذي فاق قدرة التدفق النقدي الحر على التحمل."
وأكد الدكتور الشناوي أن هذه الموجة أدت إلى واحدة من أكبر موجات الاقتراض في تاريخ الشركات، حيث أصدرت عمالقة التكنولوجيا الأميركية سندات بقيمة غير مسبوقة (مثل 90 مليار دولار من السندات ذات التصنيف الاستثماري منذ سبتمبر).
وأشار إلى أن هذا الارتفاع القياسي يعيد تشكيل أسواق الائتمان، مما أدى إلى توسيع فروق أسعار الفائدة الائتمانية وزيادة نسبة الدين إلى حقوق الملكية إلى 500 بالمئة لبعض الشركات.
وأوضح: "أصبح الذكاء الاصطناعي لا يُموّل بالتدفق النقدي، بل بالديون والطاقة والوقت، مما يُحوّل هذه الشركات إلى كيانات كثيفة رأس المال أشبه بشركات المرافق العامة".
لماذا تشعر الأسواق بالقلق؟
وذكر الخبير الاقتصادي الشناوي أنه في ظل موجة الاقتراض تشعر الأسواق بالقلق بسبب:
مخاطر الائتمان وزيادة الرافعة المالية حيث تجاوزت الديون المستحقة لبعض الشركات العملاقة 100 مليار دولار مما دفع نسبة الدين إلى حقوق الملكية للزيادة إلى 500 بالمئة.
ضعف أسعار السندات يشكل مصدر قلق: فقد ضغط تدفق الإصدارات على أسعار السندات، حيث ارتفعت عوائد سندات ميتا وأوراكل طويلة الأجل لتتداول حالياً بعلاوات تتراوح بين 1بالمئة و2 بالمئة فوق عوائد سندات الخزانة الأميركية. في حال ارتفعت أسعار الفائدة أو بقيت مرتفعة لفترة أطول من المتوقع، فقد ترتفع تكاليف إعادة التمويل، مما يزيد الضغط على التدفقات النقدية الحرة. وقد تضاعفت فروق مقايضة مخاطر الائتمان لشركة أوراكل منذ سبتمبر، مما يعكس ارتفاع تكاليف التحوط ومخاوف المستثمرين بشأن عبء ديون الشركة.
المخاطر النظامية وتشبع السوق. تُشكِّل السندات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي بالفعل ما يقرب من 9 بالمئة من إجمالي إصدارات السندات الأميركية ذات التصنيف الاستثماري هذا العام. وفي حال ربط ديون بمئات المليارات بأصول ذات عوائد غير مؤكدة، أو بتقنيات قد تتقادم، فقد يمتد الخطر إلى أسواق الائتمان.
القيود المادية حيث أن نقص المحولات والتوربينات والعمالة الماهرة يُؤخر المشاريع بالفعل، وحتى مع الاستثمارات المكثفة، قد لا تتوسع سعة مراكز البيانات العالمية بالسرعة المخطط لها. وإذا تأخر نمو البنية التحتية عن التوقعات، فقد تتعرض توقعات الإيرادات المرتبطة بخدمات الذكاء الاصطناعي لضغوط.
وفيما يخص المخرج، أكد الدكتور الشناوي أن مكاسب الإنتاجية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تُصبح الحل السحري لأزمة الديون الفيدرالية المتصاعدة (مثل ديون أميركا البالغة 120بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي). وأشار إلى أن ارتفاع الإنتاجية يُحسّن ديناميكيات الدين، ويُخفض التضخم، ويُمكن الحكومات من تحقيق الاستقرار والنمو للخروج من الأزمة المالية الحالية، حتى لو لم يتم معالجة إدمان الإنفاق.