يُفترض بزيارة بابا المسيحيين الكاثوليك في العالم، أن تجمِّد ولو لأيام، الخلافات السياسية التقليدية في لبنان. في زيارة يطغى عليها طابع التلاقي، والتفاهم، وعناوين المحبة والإعتراف بالآخر المختلف، يُفتَرض أن نسمع من القوى السياسية، كلاماً عن معنى لبنان وتجربته، والدور النهضوي لمسيحييه، وتجذّرهم في أرضهم، ورؤيتهم لدور هذا البلد الذي كانوا من مؤسسيه.
يُفترض أن نسمع هذه الأبعاد في خطاب القوى السياسية، ولو لأيامٍ معدودة.
لا يعني ذلك بأيِّ حالٍ من الأحوال، تغييب الرأي السياسي الصريح، في التحديات التي يواجهها لبنان، فهذا حقٌ مشروع. إذ كان لكثير من الشخصيات السياسية في لبنان، آراء ومواقف من زيارة البابا. بطبيعة الحال، فيها الغثّ، وفيها السمين، وفيها آراء يُبنى عليها، وفي أيضاً من "الكليشيهات" التقليدية عن كلمات ومفاهيم من دون تطبيق فعلي على أرض الواقع.
وأيضاً، كان لقوى سياسية مواقفها الخطية. حزب الله مثلاً وجّه رسالة، تعبّر بطبيعة الحال عن وجهة نظره مما يحصل في لبنان. التيار الوطني الحر، فّند في مذكرة مطولة الأخطار التي من وجهة نظره تلقي بثقلها على الكيان، من الإحتلال الإسرائيلي وغياب استراتيجية الأمن القومي الموعودة، وصولاً إلى اللجوء والنزوح والشراكة الكاملة في النظام السياسي.
ولخصوم ومؤيدي أي قوة سياسية، أن يعترضوا أو يوافقوا على هذه المذكرات والرسائل، وكذلك على غيرها. نحن في مجتمع يُفتَرض أنه ديموقراطي، يتقبل كل الآراء والتوجهات.
لكن هذا شيء، وما أقدمتْ عليه "القوات" من قصف عشوائي طال زيارة "البابا"، شيء ٌآخر.
فمنذ اليوم الأول، صبّت جام غضبها على رسالة حزب الله للبابا، معتبرةً أنه "يفرض نظره" بالنسبة للعيش المشترك. الغضب طاول تنظيم حزب الله استقبالاً شعبياً تم فيه الترحيب برأس الكنيسة المسيحية الكاثوليكية.
وبغض النظر عن أي اختلاف مشروع مع حزب الله، إن كان في السياسة أو في الإيديولوجيا أو في النظرة لسلاحه، يطرح السؤال نفسه على المعنيين: ما كان المطلوب من هذا الحزب أن يفعل في زيارة البابا، أن يصمت مثلاً ويلغي نفسه، أو أن يصدر بياناً يحظر فيه على مناصريه أن يوجهوا التفاتة تقاربٍ وتلاقٍ مع البابا، ومنه إلى المسيحيين؟
نترك جانباً هذا القصف الذي بادرت إليه "القوات" على سلوك حزب الله من زيارة البابا.
فوجئ أنصار "القوات" بغياب رئيسها سمير جعجع عن الإستقبال الرسمي في قصر بعبدا. يحق لهم التعبير عن امتعاضهم. زوجة رئيسهم، النائبة ستريدا جعجع، عبّرت عن استغرابها كذلك من أمام القصر الجمهوري. لكن هذا التغييب، تحوّل إلى مساحة لقصف في الإعلام وعلى وسائل التواصل الإجتماعي طاول قصر بعبدا ورئيس الجمهورية، بعبارات "تعيّر" الرئيس بانتخاب "القوات" له. قالوها صراحة" "لولانا ما كنت رئيس".
والأغرب، أنَّ هذا الخلاف المستجد مع الرئيس جوزاف عون، لم ينتظر السنة الأولى لانتخابه، قبل أن ينفجر سواء في موقف الرئيس من سحب سلاح حزب الله، أو من حديثه عن "بخ السم في واشنطن"، وصولاً إلى انتقادات مبطنة على لسان سمير جعجع في مقابلات تلفزيونية.
وهكذا، ومن دون سابق إنذار، تحولت الزيارة في مشهديتها، من جولة باباوية، إلى مساحة لقصف قواتيّ في كل الإتجاهات.
الإشكالية الأعمق ليست هنا. ما أتفضح عنه الشكليات أن "القوات" مستمرة سلوكٍ صداميّ مع الآخر، أياً كان، منذ استلام رئيسها الحالي قيادتها. يطيب لأيِّ حريص على لبنان، وأيضاً على مسيحييه، أن يعتقد أنها بدّلت من سلوكها التقليدي. كاتب هذه السطور، ليس لديه أي حقد تقليدي على القوات اللبنانية، لا بل بالعكس.
لكن إذا كانت "القوات" من دون زيارة البابا، أو مع زيارة البابا، باقية على نيران القصف أينما كان، وكيفما كان، مع من لا يتفق مع رأيها أو سلوكياتها، فمع من هي قادرة على العيش، طالما أن المسار إلغائي من التعاطي مع التيار الوطني الحر، إلى سعد الحريري رئيس تيار "المستقبل"، والآن رئيس الجمهورية وقائد الجيش، وصولاً إلى رياض طوق في بشري؟!
وهل البقاء على حالة دائمة من التعبئة والشحن ضد أي "آخر"، هي فعلاً في صالح ديمومة وجود المسيحيين في لبنان وترسيخ دورهم الطليعي فيه؟
هي أسئلة بديهية، لكن الأكيد، أن سياسة الإلغاء والحقد العبثي، ليست في صالح الكيان اللبناني، ولا في صالح مسيحييه...
• رئيس تحرير tayyar.org