نقلاً عن موقع الخنادق - د.محمد الأيوبي
من النادر أن تتقاطع لحظة سياسية واحدة مع طبيعة الأزمة البنيوية التي تعيشها "إسرائيل" منذ سنوات طويلة، لكنّ الإصرار الأميركي المفاجئ على إطلاق المرحلة الثانية من اتفاق غزة يفعل ذلك تماماً. فهنا لا نتحدث عن خلاف تقني بين واشنطن وتل أبيب حول صياغة مشروع قرار في مجلس الأمن، بل عن ارتطام مباشر بين منطقين: منطق القوة الجامحة الذي تحوّلت إليه "إسرائيل" بعد الحرب، ومنطق إدارة الإمبراطورية الأميركية التي ترى أن استمرار الفوضى بات يضرّ بمصالحها العميقة، وأن الوقت حان للعودة إلى صيغة "التحكّم المنظّم" بالصراع، لا تركه مفتوحاً على الانفجار.
هذا الاصطدام هو ما يفسّر حالة الذعر التي تسود المؤسسة الأمنية والسياسية "الإسرائيلية". فبحسب موقع "والا"، لا أحد في تل أبيب يجد دولة واحدة مستعدة لإرسال قوات متعددة الجنسيات إلى غزة. ليس لأن الدول لا تثق بواشنطن، بل لأنها تدرك أن الانخراط في هذا النموذج يعني ملامسة قلب الأزمة: إدارة قطاع محطّم، "شعب ممزّق"، ومقاومة لم تُهزم، ووجود "إسرائيلي" يريد أن ينسحب دون أن يتحمّل كلفة الاعتراف بالفشل.
ومع ذلك، وبخلاف ما تريده "إسرائيل"، يبدو أن إدارة دونالد ترامب عازمة على تنفيذ المرحلة الثانية الآن، لا غداً. وربما هنا تكمن المفارقة الكبرى: الرئيس الأميركي الذي دعم حرب "إسرائيل" حتى أقصاها، يعود اليوم ليملي عليها شروطاً جديدة تُشعرها بأنها فقدت زمام المبادرة. هذا التحوّل، يعكس بوضوح ما يسمي "منطق الإمبراطورية". فالولايات المتحدة لا تتحرك لأنها تريد حلولاً عادلة أو استقراراً حقيقياً، بل لأنها تسعى لإعادة إنتاج نموذج السيطرة من خلال ترتيبات دولية جديدة، بعد أن استنزفتها حربٌ طويلة بلا أفق.
أميركا تُمسك بخيط المرحلة الثانية… و"إسرائيل" ترتجف
مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن يحمل في داخله ما تصفه "إسرائيل" بأنه "قنبلة سياسية": إشارات واضحة نحو تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية بعد "إصلاح" السلطة. هذه ليست لغة رمزية، بل إعلان بأن مرحلة "لا دولة فلسطينية" التي روّج لها اليمين "الإسرائيلي" لسنوات، قد بدأت تتصدّع.
ليس غريباً أن يدخل نتنياهو وكبار مسؤولي الخارجية في موجة اتصالات هستيرية مع البيت الأبيض ودول عربية لتخفيف صياغة القرار. فالمسودة الأميركية، في شكلها الحالي، تعيد فتح الباب المغلق منذ 20 عاماً: باب التسوية السياسية، ولو بصيغة أميركية مشوهة. وهذا ما تعتبره تل أبيب أخطر من حرب غزة نفسها.
الأخطر أن الإدارة الأميركية تربط إطلاق المرحلة الثانية بترتيبات ميدانية ليست "إسرائيل" الطرف المركزي فيها: قوة متعددة الجنسيات تعمل في غزة بالتعاون مع مصر، وهيئة حكم مدنية من مستقلين فلسطينيين، وانسحاب كامل من "الخط الأصفر". بكلمات أخرى، انتهاء زمن الاحتلال المباشر مهما حاولت "إسرائيل" استعادته.
هنا تماماً تكمن نقطة الذعر: "إسرائيل" تدرك أن واشنطن لا تطلب منها فقط الانسحاب من غزة، بل أن تتخلّى – ولو مرحلياً – عن شكل السيطرة التقليدية التي قامت عليها البنية الأمنية والسياسية للدولة منذ 1948.
معركة السيطرة على غزة: من يحكم؟ ومن يقرر المصير؟
الفزع "الإسرائيلي" لا يقتصر على الجانب السياسي. فترتيبات الميدان تتقدم بسرعة تتجاوز قدرة تل أبيب على التعطيل. اختيار رؤساء للبلديات في غزة، تفعيل 30 ألف عنصر من أمن السلطة، إعادة فتح معبر زيكيم لإدخال المساعدات، وصول آلاف الخيام والبيوت المتنقلة… كلها مؤشرات على أن الوسطاء – وخصوصاً مصر وقطر وتركيا – يتحركون في مسار عملي يخلق واقعاً جديداً على الأرض.
هذا الواقع، من منظورنا، يعبّر عن "إرادة دولية لإعادة هندسة غزة بما يتناسب مع مصالح الفاعلين الكبار"، لا بما يتناسب مع تطلعات سكانها أو قواها.
ما تريده واشنطن، بوضوح، هو نموذج يسمح باستمرار السيطرة الأميركية على المسار السياسي، ويمنح "إسرائيل" مخرجاً "مشرّفاً" من المستنقع، ويضمن في الوقت ذاته تحييد حماس دون الدخول في حرب جديدة. أما "إسرائيل"، فتريد العكس تماماً: أن تظل شريكة في كل تفصيل، وأن تبقى غزة رهينة قرارها الأمني.
مقاتلو حماس… عقدة المرحلة الثانية
ربما كانت قضية مقاتلي حماس في رفح المثال الأكثر وضوحاً على صراع الإرادات. فهناك ثلاثة مشاريع متناقضة تتحرك في آن واحد:
- مشروع الاحتلال: تحويل الملف إلى نموذج استسلام شامل – تسليم السلاح والمقاتلين – لتسويق "نصر سياسي" بعد الهزيمة العسكرية.
- مشروع حماس: الخروج الآمن للمقاتلين، وتأكيد أن الاتفاق ليس استسلاماً بل إعادة تموضع. وهو الأقرب إلى سياسة الأمر الواقع.
- المشروع الأميركي: تسوية هجينة – خروج آمن للمقاتلين مع تسليم السلاح – تمنح واشنطن الظهور بمظهر الوصي على المرحلة.
هذا النموذج، ليس مجرد خلاف حول "ممر آمن"، بل هو اختبار جوهري لطبيعة المرحلة المقبلة: هل ستكون مرحلة فرض تسوية على حماس؟ أم مرحلة فرض واقع جديد على إسرائيل؟ أم مرحلة صراع متواصل تتغير أدواته من عسكرية إلى سياسية؟
مصر تدخل الميدان… والوساطة تتحول إلى إدارة مباشرة
الزيارة المرتقبة للوفد المصري إلى غزة تحمل دلالة بعيدة المدى: القاهرة تنتقل من دور الوسيط إلى دور الشريك في الهندسة السياسية والأمنية للقطاع. هذا التحول يقلق "إسرائيل" بقدر ما يريح واشنطن. فمصر، من منظور أميركي، قادرة على ضبط الفصائل، وعلى إدارة ملفات حساسة كخروج المقاتلين وتفكيك بعض البنى العسكرية، دون أن تبدو واشنطن في موقع الضغط المباشر.
لكن بالنسبة لإسرائيل، دخول مصر بهذا المستوى يعني خسارة مجال حيوي من التحكم بالجنوب، وهو ما يتعارض مع عقيدة الأمن التي تقدّمها الحكومة الحالية كمرتكز وجودي.
نتنياهو بين المطرقة الأميركية والسندان اليميني
الضغط الأميركي على نتنياهو لا يجري في فراغ، بل في لحظة داخلية شديدة التعقيد. فسموتريتش وبن غفير يرفعان سقف التهديد: "لا دولة فلسطينية"، "لا مسار سياسي"، "لا مرحلة ثانية أصلاً".
بل يذهب بن غفير إلى أبعد من ذلك: "لا يوجد أصلاً شيء اسمه الشعب الفلسطيني". هذه ليست شعارات، بل أدوات تعبئة “mobilization” تستخدمها الحكومة لحماية نفسها من الانهيار.
لكن المشكلة الأساسية هي أن نتنياهو لا يستطيع تجاهل واشنطن. فترامب، برخاوته الظاهرة، يمارس في الواقع ضغطاً عنيفاً: الانتقال فوراً إلى المرحلة الثانية، وتطبيق الاتفاق كما هو، ولو على حساب “الحكومة الإسرائيلية” نفسها.
الخلاصة: من يملك الزمن؟
السؤال الحقيقي ليس ماذا تريد الأطراف، بل من يملك القدرة على تحديد الزمن السياسي. "إسرائيل"، لأول مرة منذ عقود، تفقد هذه القدرة. واشنطن تريد التحرك الآن. الوسطاء يتحركون الآن. الواقع الميداني يتغير الآن. "إسرائيل" وحدها تريد التأجيل.
ليس لأنها تملك خطة بديلة، بل لأنها تخشى الاعتراف بما حاولت إخفاءه طوال عامين:
أن الحرب لم تحقق أهدافها، وأن "اليوم التالي" لن يكون يومها.
بهذا المعنى، فإن الفزع "الإسرائيلي" ليس مجرد رد فعل على ضغط أميركي، بل هو انعكاس لحقيقة أعمق: أن مرحلة جديدة من الصراع بدأت، وأن "إسرائيل"، مهما حاولت، لم تعد الطرف الذي يحدد مصير غزة… ولا مصير الاتفاق… وربما لا مصير نفسها في النظام الدولي الآخذ بالتغير.
