أنطوان الأسمر-
تدخل العلاقة اللبنانية–السورية طورًا مختلفًا لا يشبه ما سبقه، لا من حيث الشكل ولا من حيث موازين القوة ولا حتى من حيث اللغة السياسية التي تُدار بها. هذه العلاقة هي أمام لحظة انتقالية حادة، تُطوى فيها صفحة كاملة من تاريخ غير متكافئ، من دون أن تُفتح بعد صفحة جديدة واضحة المعالم. وما يزيد من حدّة هذه المرحلة أن الطرفين لا يقفان على أرضية متشابهة: سوريا تتحرّك كدولة تحاول لملمة نفسها بعد حرب وجودية، فيما لبنان يتخبّط ككيان مأزوم لم يحسم بعد معنى الدولة أصلًا.
لم تعد دمشق تنظر إلى بيروت بوصفها ساحة نفوذ أو رئة سياسية أو اقتصادية كما في السابق، بل كحدّ جغرافي هش يجب تحييده قدر الإمكان عن مسار إعادة البناء الداخلي. باتت الأولوية السورية داخلية بامتياز: إعادة فرض مركز القرار، ضبط التعدديات المسلحة، وترسيم المجال السيادي للدولة بعد سنوات من التشظي. في هذا السياق، يتحوّل لبنان من شريك إشكالي إلى عامل إزعاج محتمل، تُفضِّل دمشق إبقاءه تحت السيطرة الباردة بدل فتح أي اشتباك سياسي أو أمني معه.
هذا التحوّل لا يعني بالضرورة تبدّلًا جذريًا في العقل السياسي السوري، بل يعكس براغماتية صارمة فرضتها الوقائع. سوريا الخارجة من الحرب لا تملك ترف المغامرات، ولا تحتاج إلى أزمات حدودية إضافية، ولا ترغب في وراثة الفوضى اللبنانية. الاستقرار ليس خيارًا أخلاقيًا، بل شرط بقاء، وأي انفلات عند الحدود اللبنانية قد يتحوّل عبئًا استراتيجيًا في لحظة تحاول فيها دمشق استعادة شرعيتها ووظيفتها الإقليمية.
في المقابل، يظهر لبنان في هذه المعادلة الأضعف والأكثر ارتباكًا. لا تملك الدولة تصورًا موحدًا للعلاقة مع سوريا، ولا سياسة خارجية فعلية، ولا قرارًا سياديًا جامعًا يتيح لها التفاوض من موقع الندّية. الانقسام الداخلي حول مفاهيم أساسية – من السيادة إلى ترسيم الحدود، ومن سلاح الفصائل إلى ملف اللاجئين، يجعل لبنان عاجزاً عن تحويل التحوّل السوري إلى فرصة، أو حتى عن حماية نفسه من ارتداداته.
الأخطر أن لبنان لا يزال يتعامل مع العلاقة بسوريا بعقلية ردّ الفعل: ينتظر ما تقرّره، وما يسمح به الخارج، وما تفرضه الوقائع الأمنية، ثم يحاول التكيّف. لم يعد السؤال المطروح كيف ستؤثر سوريا في لبنان، بل هل يملك لبنان أصلًا القدرة المؤسسية والسياسية للتأثير في أي مسار مقبل، أم أنه سيبقى مجرد هامش في معادلة تُرسم من دونه؟
اقتصاديًا، تبدو المصالح المشتركة واضحة نظريًا: الترانزيت، إعادة الإعمار، الطاقة، واللاجئون. لكن هذه العناوين الكبيرة تصطدم بواقعين متناقضين: سوريا لا تريد شراكات غير مضبوطة مع دولة مفككة، ولبنان لا يملك أدوات الدولة لإدارة ملفات بهذا الحجم. ملف اللاجئين مثال صارخ: مطلب لبناني ضاغط، مقابل مقاربة سورية حذرة، تخشى أن يتحوّل أي اتفاق ناقص إلى عبء سياسي وأمني جديد.
أمنيًا، تسعى دمشق إلى ترسيم خطوط تماس واضحة تمنع تسلّل الفوضى والتهريب والمجموعات غير المنضبطة، فيما لا يزال لبنان يتعامل مع حدوده الشرقية والشمالية بعقلية الإهمال والتسويات الموقتة. هنا يظهر الخلل البنيوي: دولة تحاول استعادة احتكار القوة، مقابل دولة لم تحسم بعد من يحتكر السلاح ومن يقرر السلم والحرب.
اللافت أن العلاقة الحالية تخلو من الصخب الذي طبع مراحل سابقة. لا وصاية مباشرة، ولا شعارات أخوية، ولا قطيعة معلنة. العلاقة في منطقة رمادية باردة، تُجري فيها دمشق اختبارًا صامتًا لقدرتها على إدارة الجوار، فيما يُمتحن لبنان في أبسط أسئلة الدولة: هل يستطيع الانتقال من خطاب السيادة إلى ممارستها، أم أن السيادة ستبقى شعارًا يُستخدم عند الحاجة ويُعلّق عند أول استحقاق؟
في المحصلة، العلاقة اللبنانية–السورية لم تُحسم، لكنها تغيّرت جذريًا. لم تعد علاقة فرض وإملاء، لكنها أيضًا لم تتحوّل إلى علاقة شراكة متكافئة. إنها مرحلة اختبار قاسٍ، قد تُفضي إلى إعادة تعريف العلاقة على أسس جديدة، أو تكشف، مرة إضافية، عجز لبنان عن الخروج من موقع الساحة المفتوحة. والفرق هذه المرة أن سوريا تغيّرت، فيما لبنان لا يزال عالقًا في مكانه.