<
20 December 2025
الديار: عشر سنوات غيّرت طرابلس... إنحسار الخطاب التقليدي وصعود الهمّ الإجتماعي

الديار: علي ضاحي-

على مدى عقود، ارتبط اسم طرابلس في مخيّلة اللبناني والعربي بالخطاب الديني المحافظ، وبصورة مدينة تُدار نبضاتها من منابر المساجد وزوايا الأحياء الشعبية. لكن العقد الأخير الممتد من 2014 إلى 2024، حمل معه تحوّلات عميقة قلبت هذا المشهد رأسا على عقب.


فالأزمات المتلاحقة، من الحرب السورية وتداعياتها، إلى الانهيار المالي غير المسبوق، مرورا بجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، أعادت تشكيل أولويات الناس، ودفعت الخطاب الديني والاجتماعي في المدينة إلى مسارات جديدة، أقل أيديولوجية وأكثر التصاقا بالهمّ المعيشي.

لم يعد السؤال في طرابلس: "إلى أي تيار تنتمي؟" بل بات: "كيف تعيش؟ وكيف تؤمّن خبز يومك"؟

في عام 2014، كانت طرابلس خارجة لتوّها من جولات عنف متكررة بين باب التبانة وجبل محسن. يومها، شكّل الخطاب الديني أحد أعمدة التعبئة الاجتماعية، سواء في مواجهة الخصم السياسي أو في تحصين البيئة الداخلية. كانت المنابر الدينية حاضرة بقوة، والخطاب مشحونا بالمفردات الهوياتية، فيما لعبت بعض التيارات الإسلامية دورا سياسيا واجتماعيا ملحوظا، مستفيدة من فراغ الدولة وضعف الإنماء.

ويقول إمام مسجد في منطقة القبة الشيخ أحمد.ر: "في تلك المرحلة، كان الناس يأتون إلى المسجد بحثا عن موقف، عن إجابة سياسية بقدر ما هي دينية. كان الخوف حاضرا، والاصطفاف أقوى من لقمة العيش".

ابتداءً من أواخر 2019، دخل لبنان مرحلة الانهيار الشامل، وكانت طرابلس من أكثر المدن تضررا. فقدت الليرة أكثر من 90% من قيمتها، وتوقّفت مئات المؤسسات عن العمل، وارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة.

وتشير احصاءات حديثة الى ان نسبة الفقر في طرابلس تجاوزت 70% من السكان. ووصلت نسبة البطالة بين الشباب حسب تقديرات محلية الى ما بين 45 و50%، اما عدد العائلات المستفيدة من المساعدات: أكثر من 60 ألف عائلة في المدينة وضواحيها.

وأمام هذا الواقع، تراجع تأثير الخطاب الديني التقليدي، الذي يركّز على القضايا العقائدية أو السياسية الكبرى، وصعد خطاب جديد، عملي، يومي، يلامس وجع الناس.

من جهة ثانية، لم تختفِ المساجد من المشهد، لكنها تغيّرت في الوظيفة والمضمون. تحوّل كثير من الخطب من خطاب تعبوي إلى خطاب اجتماعي: الصبر، التكافل، المساعدات، العمل، الهجرة، والبحث عن مورد رزق.

ويقول خطيب في أحد مساجد التبانة الشيخ محمد ز.: "لم يعد الناس يحتملون الكلام النظري. يأتون ليسألوا: كيف نساعد أولادنا؟ كيف نؤمّن دواء؟ كيف ندفع إيجار البيت؟ إذا لم نُجب عن هذه الأسئلة، نفقد الناس".

وبحسب اوساط دينية، فإن عدد المبادرات الخيرية المرتبطة بالمساجد، تضاعف أكثر من ثلاث مرات خلال السنوات الخمس الأخيرة، مقابل تراجع واضح في الأنشطة السياسية أو الحزبية ذات الطابع الديني.

ومع أفول الدور السياسي لبعض التيارات التقليدية، تقدّمت الجمعيات والمنظمات غير الحكومية لسدّ الفراغ. في أحياء مثل باب الرمل، القبة، والأسواق الداخلية، باتت الجمعيات المرجع الأساسي للمواطنين، لا الأحزاب ولا القيادات الدينية.

وتقول مسؤولة في جمعية اجتماعية سعاد.م لـ"الديار": "الناس لم تعد تسأل عن الهوية السياسية. تسأل عن ربطة خبز، عن حليب طفل، عن فاتورة مستشفى. هذا غيّر كل شيء".

وتشير احصاءات حديثة ايضاً الى ان عدد الجمعيات الناشطة اجتماعيا في طرابلس تعدّ بنحو 300 جمعية مسجّلة. اما عدد الجمعيات ذات الطابع الإغاثي فيصل الى نحو 60% من مجموع الجمعيات.

اما التحوّل الأبرز في الخطاب الاجتماعي جاء مع الجيل الشاب. أبناء طرابلس اليوم أكثر اتصالا بالعالم عبر وسائل التواصل، وأكثر تشكيكا بالخطابات التقليدية، سواء الدينية أو السياسية.

ويقول خالد.ع شاب عاطل عن العمل (26 عاما): "لا يهمني من يحكم أو ماذا يقول الخطيب، أريد فرصة عمل، أريد أن أعيش بكرامة، الدين مهم لكن الجوع أهم".

هذا الجيل يتبنّى خطابا اجتماعيا مدنيا، يطالب بالحقوق الأساسية، ويعبّر عن غضبه بوسائل جديدة: احتجاجات، منصات رقمية، حملات ضغط، بدل الانخراط في الأطر الحزبية الكلاسيكية.

وتشير مصادر أمنية واجتماعية إلى أن الخطاب المتطرّف، الذي كان يُخشى تمدّده في فترات سابقة، تراجع بشكل ملحوظ، ليس بفعل المعالجة الفكرية فقط، بل نتيجة الواقع المعيشي القاسي الذي "كسر" أي خطاب غير مرتبط بالحاجات اليومية.

مصدر أمني يقول لـ"الديار": "الفقر لا يصنع تطرّفا دائما، بل يفرغه من مضمونه عندما لا يجد الناس ما يأكلونه. الأولوية تغيّرت".

ولعبت النساء دورا أساسيا في هذا التحوّل. فقد خرجن من الأدوار التقليدية إلى العمل الاجتماعي، والإغاثي، وحتى الإعلامي، في مدينة كانت تُصنّف محافظة.

وتقول ناشطة اجتماعية نورا.ح: "الأزمة أجبرت النساء على كسر الحواجز. اليوم، المرأة الطرابلسية في الصفوف الأولى من العمل الاجتماعي، وغالبا تعيل أسرتها".

طرابلس اليوم ليست أقل تدينا، لكنها أكثر واقعية. لم تتخلَّ عن هويتها، لكنها أعادت ترتيب أولوياتها. تراجع الخطاب الديني التقليدي لا يعني نهايته، بل اندماجه في خطاب اجتماعي أوسع، عنوانه العريض: البقاء.

وبعد عشر سنوات من التحوّلات، تبدو طرابلس مدينة تبحث عن دولة لا عن زعيم.. عن عمل لا عن شعار... وعن عدالة اجتماعية لا عن خطابات خشبية. والسؤال المفتوح: هل يلتقط السياسيون هذه التحوّلات؟ أم تبقى المدينة أسيرة الانتظار؟ 
الديار