الديار: دوللي بشعلاني-
دخلت اتفاقية "التعاون القضائي" بين لبنان وسوريا في مرحلة حسّاسة جدّاً، بعد أن كانت طريقها ممكنة، وتسير بخطوات إيجابية خلال الأشهر الماضية. لكن الجولة الأخيرة التي قادها الوفد اللبناني، برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري إلى دمشق لمناقشة مسودة الاتفاقية، وصفها البعض بأنها "سيئة" أو "غير إيجابية"، أو في أحسن الأحوال "لم يتمّ التوافق بين الجانبين على الصيغة النهائية لها، ولم يتمّ بالتالي تحديد موعد آخر لاجتماع اللجنة المشتركة"، ما عكس حجم التعقيدات السياسية والقانونية، التي ما زالت تحول دون التوصّل إلى اتفاق قابل للتنفيذ.
وتهدف الاتفاقية إلى تنظيم تسليم الموقوفين والمحكومين بين البلدين، وبدء صفحة جديدة من التعاون القضائي بينهما. لكنّ الجولة الأخيرة أعادت الملف إلى نقطة الصفر، بسبب تفاهمات مبدئية وتباينات أساسية في التطبيق، ما أدّى إلى أجواء سلبية بين الوفدين. فما هي الأسباب الحقيقية للخلافات بين الجانبين؟ وما هي الأطر المطروحة لاستكمال المحادثات توصّلاً الى حلّ يرضي البلدين؟!
مصادر سياسية مطلعة تحدّثت عن حصول خلافات حول ثلاث عقد متداخلة هي: تحديد فئات الموقوفين المشمولين بالاتفاق، (أي حدود الاستثناءات الجنائية)، والضمانات القانونية والقضائية المرتبطة بعملية التسليم، فضلاً عن ضغوط سياسية وحقوقية داخلية ودولية.
فالاستثناءات الجوهرية في نصّ الاتفاق، خلقت إشكالاً سياسياً وقانونياً. فالنصّ المتداول بين الطرفين يستثني بوضوح "المتورطين في جرائم قتل أو اغتصاب" و "مَن شنّ هجمات ضد عناصر الجيش اللبناني أو جرائم إرهابية" من آلية النقل أو التسليم، وهو بند تطلبه بيروت لتجنّب إعادة عناصر متهمين بجرائم خطرة إلى سوريا من دون محاكمات مكتملة.
في حين ترى دمشق في هذا الاستثناء عاملا يقضي على جوهر مطلبها باستعادة رعاياها بسرعة، واعتبرته "لا يلبّي الحد الأدنى" من مطالبها، ما أغلق نافذة أي تفاهم سريع، كما أنّ عدم وجود ضمانات قانونية وقضائية. فالمعضلة تمحورت حول أنّ مئات الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، بغالبيتهم أوقفوا خلال السنوات التي تلت اندلاع الحرب السورية. والإشكالية هي أنّ أكثر من 60% من هؤلاء لم تصدر ضدهم أحكام نهائية بعد، وبعضهم موقوف منذ سنوات طويلة من دون محاكمة مكتملة، ما يجعل أي قرار بتسليمهم موضع إشكال قانوني ودستوري.
والوفد اللبناني، قدّم مقاربة تقوم على التمييز بين فئات الموقوفين. وشدّد على استحالة شمول الاتفاقية للموقوفين أو المحكومين بجرائم تُصنّف في لبنان ضمن الجرائم الخطرة. واعتبر أنّ تسليم هؤلاء يشكّل مساساً بحقوق الضحايا وبسيادة القضاء اللبناني، فضلاً عن تعارضه مع التزامات لبنان القانونية.
في المقابل، أبدى الوفد السوري تحفظات واضحة عن هذه المقاربة، معتبراً أن الاستثناءات المقترحة واسعة وتفرغ الاتفاق من مضمونه. كما طالب الجانب السوري بتقديم أدلة قضائية واضحة تثبت توصيف "الإرهاب" أو الجرائم الأمنية ضد عدد كبير من الموقوفين، مشيراً إلى أنّ بعض الملفات، وفق الرؤية السورية، تتعلق بمخالفات دخول غير شرعي أو نشاط سياسي معارض، لا بجرائم إرهابية بالمعنى الجنائي الصرف.
هذا التباين في توصيف الجرائم شكّل أحد أبرز أسباب التوتر خلال الاجتماعات. وتؤكد المصادر ان هناك عاملا آخر ساهم في تعثّر المباحثات، يتمثل في ضغوط حقوقية وسيادية داخلية وإقليمية. فلبنان طالب بضمانات صريحة تتعلق بمصير أي موقوف قد يُسلّم إلى سوريا، بما في ذلك شروط المحاكمة العادلة، وعدم التعرّض للتعذيب أو الملاحقة السياسية. وابدى خشيته من عملية "إرجاع" متهمين بجرائم خطرة إلى سوريا، من دون ضمانات قضائية وحقوقية. في المقابل، اعتبر الجانب السوري أنّ هذه الشروط تدخل في إطار التشكيك المسبق في القضاء السوري، وأنها تعقّد إجراءات يفترض أن تكون تقنية وقضائية.
ومن جهة أخرى، تثير منظمات حقوقية مخاوف من اعتقالات تعسفية أو إجراءات انتقامية بحق من تعاديهم دمشق. هذا التوازن بين الالتزام بحقوق الإنسان و"الضغط السياسي" لاستعادة مواطنين سوريين، خلق معضلة لا تُحلّ بمذكرة تقنية وحيدة.
ولكن بماذا طالب الوفد اللبناني؟ ومَن طالت الاعتراضات؟ توضح المصادر السياسية بأنّه تم عرض مسودة اتفاقية تنظم النقل القضائي وتبادل المعلومات، مع استثناء واضح لجرائم "قتل عناصر الجيش أو جرائم الاغتصاب والقتل الشنيعة"، وطلب أن تكون الإجراءات متوافقة مع القانون اللبناني، ومع ضمانات قضائية واضحة. في حين أنّ الجانب السوري طالب بتوضيح القوائم وتقديم الأدلة على صفة "الإرهاب" لبعض الموقوفين، وأبدى ملاحظات رسمية على المسودة. وطالب بالتالي بأن تشرح آليات التنفيذ دون استثناءات توسّع نطاق عدم التنفيذ. كما عبّرت دمشق عن استياء من طول انتظار ملفات عدد كبير من الموقوفين.
كما برزت خلال المفاوضات ملفات شديدة الحساسية، تتصل بقضايا اغتيال أو اعتداءات كبيرة أو تعاون مع مجموعات مسلّحة، وهي ملفات تحتاج، وفق المصادر، إلى مستوى عالٍ من التنسيق الأمني والقضائي، يتجاوز مجرد توقيع إتفاقية عامة. وفي ما يتعلّق بأعداد الموقوفين، تشير التقديرات إلى أن عدد السوريين المحتجزين في السجون اللبنانية، بحسب أرقام بعض المؤسسات الدولية والمنظمات الحقوقية، هو أكثر من 2000 موقوف سوري، بينما الأرقام المحلية تتحدّث عن أنّها في حدود 2,250 و2,723 في سجون مركزية ومتفرقة.
في المقابل، تذكر تقارير صحافية غربية أن نحو 700 موقوف فقط قد يستوفون شروط النقل أو الترحيل وفق مسودات الاتفاق الحالية، بينما هناك ما بين 1,300 و1,700 موقوف عليهم قضايا انتظار محاكمات أو إدانات نهائية. هذه الفجوة العددية جعلت كلّ طرف يراهن على رقم يدعم موقفه السياسي والإنساني.
أمام هذا المشهد المعقّد، يبدو أنّ الطريق إلى حلحلة العقد لا يزال طويلاً، لكنه ليس مسدوداً. وتلفت المصادر المتابعة إلى أنّ أحد المخارج الممكنة يتمثل في اعتماد آلية مرحلية، تقوم على تبادل قوائم محددة ومدققة، يُنظر في كل حالة على حدة، بدلاً من مقاربة شاملة. كما يُطرح خيار تشكيل لجنة قضائية مشتركة، تضمّ قضاة وخبراء قانونيين من الجانبين، مهمتها التدقيق في الملفات العالقة وتوحيد توصيف الجرائم، وفق معايير قانونية متفق عليها.