<
16 December 2025
عكس السير: جعجع: الخاسر دائماً... وأبداً

عكس السير: غسان سعود-

 لا مستقبل في السياسة لمن يروّج كذبة على خصمه فيصدّقها هو نفسه، ويبني استراتيجيته على أساس الكذبة التي صدّقها.

 

في الحرب اللبنانية - الإسرائيلية الأخيرة، سوّقت الماكينة الدعائية الإسرائيلية كذبة للنيل من معنويات مقاتلي حزب الله وجمهوره، تفيد بأن الحزب خسر 95 في المئة من قدراته. لكنّ من صدّق الكذبة لم يكن الحزب وجمهوره، بل خصومه في الداخل اللبناني، وعلى رأسهم القوات اللبنانية وجمهورها.

 

وبالمثل، في الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، بادرت آلة الدعاية الإسرائيلية منذ اليوم الأول إلى نشر كمية هائلة من الأكاذيب عن انهيار النظام، لكنّ من صدق هذه الأخبار وبنى عليها وخرج «يشوبر» بيديه، كان مسؤول جهاز التواصل في القوات اللبنانية، شارل جبور، الذي لم يقنع المشاهدين، لكنه أقنع رئيس حزب القوات في معراب بأن الدولة الإيرانية سقطت وأن قادة النظام يبحثون عن ملاجئ آمنة.

 

إذا كانت هذه أمثلة ضمن عشرات السياقات المماثلة التي تكشف أن جعجع لا يملك معرفة حقيقية، لا من قريب ولا من بعيد، بما يدور في المطابخ السياسية - الأمنية لمن يؤيدهم، ولا يصل إليه إلا ما يُراد إيصاله للإعلام، فإن المشكلة تكمن في تسرّعه في بناء حساباته على هذه التسريبات، التي يُفترض أن تؤثر في معنويات خصومه، فإذا بها تنقلب لتؤثر في معنوياته، كما نشهد اليوم، حيث يعمّ معراب توتر غريب وغير مسبوق، لثلاثة أسباب على الأقل:

 

الأول، أن الإعلام الأميركي - الاسرائيلي - الخليجي - اللبناني الذي زعم قبل عام أن حزب الله انتهى، هو نفسه يردّد اليوم أن الحزب لم ينته بل أعاد بناء قدراته، رغم اغتيال قادته والتدمير والتهجير وسقوط النظام السوري، والرقابة الأميركية - الإسرائيلية على بر المنطقة وبحارها وجوها. وبمعزل عما يفترض أن يقوله جعجع لجمهوره بعدما تبين أنه كذب عليهم حين أخبرهم بأن الحزب انتهى، يبقى السؤال: ماذا يفترض به شخصياً أن يفعل بعد أن قال كل ما قاله ظناً منه بأن الحزب لن يكون موجوداً في اليوم التالي للحرب، وكيف يسيطر على دقات قلبه وهو يسمع ولي العهد السعودي يتحدث بايجابية، في حضرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن الايرانيين ويواصل لقاءاته معهم.

 

مشكلة جعجع على هذا المستوى شخصية، إذ إنه في كل مرة يصدّق الأميركيين ويظن أنه سيكون شريكاً في الطاولة عندما يتقدم عليهم في التصعيد، سرعان ما يجدهم يجلسون مع خصومه، بينما يقبع هو في السجن أو في إحدى زوايا معراب. حصل ذلك حين اندفع نحو إهدن، فغسل من أرسله يديه منه بعد ساعات قليلة من المجزرة. وحصل أيضاً حين وجد نفسه في سجن اليرزة فيما كان من حمّسوه يحكمون البلد بغطاء سعودي - سوري. وحصل مرة ثالثة حين أعاد السعوديون والإماراتيون وصل ما انقطع بينهم وبين الرئيس السوري بشار الأسد من دون أي اعتبار لموقفه أو لشاربه الذي هدّد بحلقه إن لم يسقط نظام الأسد سريعاً، فبل 14 عاماً من سقوطه! وها هي تركيا وقطر تعيدان ترتيب علاقات أصدقائهما في لبنان مع الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، فيما لا يجرؤ جعجع على مناقشة السعوديين بفتح قنوات جانبية له مع السوريين أو غيرهم.

 

الثاني، هو دخول لبنان في ما يمكن وصفه بزمن الأحادية الأميركية، من دون أن يكون جعجع رجل المرحلة أو حتى لاعباً أساسياً فيها، إذ لا يوجد سوى عنوانين لكل من يريد شيئاً من البلد: بعبدا وعين التينة. وإذا كان رئيس حزب القوات قد افترض قبل عام أنه بتسميته نواف سلام يسحب بساط الرئيس نجيب ميقاتي من تحت جوزف عون ويعرقل انطلاقة العهد، أظهرت الوقائع أن ميقاتي بعلاقاته الداخلية والخارجية كان يمكن أن يحجز لنفسه مقعداً إلى جانب رئيس الجمهورية، فيما أطفأ سلام نفسه وترك الساحة لعون.

 

وعلى المستوى الشعبي، من ينجح أو يفشل في جمع سلاح حزب الله جنوب الليطاني هو الدولة ممثلة بعون، لا بجعجع، ومن سيكون «بطل السيادة الكاملة» هو عون أولاً، وقائد الجيش رودولف هيكل ثانياً، لا جعجع الذي يقتصر دوره على المزايدة والتمريك في المقابلات التلفزيونية. والواقع اليوم يشير إلى أن الآية انقلبت عما كانت عليه في العهد السابق، حين كان فشل أي وزير فشلاً للعهد ونجاح أي وزير في أي ملف يُنسب للوزير وحده لا للعهد. اليوم، أصبح نجاح أي ملف نجاحاً للعهد، وفشل أي ملف يقع على عاتق الوزير والجهة السياسية التي تدعمه، مما يجعل مشاركة جعجع في الحكومة مصدر خسائر أكثر من المكاسب، إذ يتحمل وزر فشل وزرائه.

 

الثالث - والسبب الأكبر لتوتر معراب - أن جعجع، بعد «محاصرة» التيار الوطني الحر وعزله عام 2019، كان يتصور أنه سيستمتع أخيراً بأحادية القيادة المسيحية. وإذا بمن يصفون أنفسهم بـ«التغييريين» ينغّصون حلمه جزئياً، فبدأ يخوض معارك جانبية معهم لإقناع الرأي العام بأنه ليس واحداً من «كلن يعني كلن»، رغم مشاركته في غالبية الحكومات منذ 2005 وزعمه الدائم بأن العماد عون لم يكن ليُنتخب رئيساً لولاه. أما اليوم فإن حجمه في كسروان لا يتعدّى نائباً واحداً مقابل نائب أيضاً للتيار وثلاثة نواب لرجال الأعمال والبيوتات السياسية والقوى المسيحية التقليدية. وفي المتن الشمالي، لا يتعدّى حجمه أيضاً مقعداً واحداً مع المنافسة على مقعد ثانٍ، والأمر نفسه بالنسبة للتيار، بينما يحتل رجال الأعمال والبيوتات السياسية والقوى التقليدية أربعة مقاعد. وهكذا دواليك في بقية المناطق: له الربع ولهم ثلاثة أرباع، أو له الثلث ولهم الثلثان (نائبان من سبعة في زحلة). أقفل عينيه ليرتاح دقيقتين بعد انتهاء المعركة المفترضة مع التيار، فاستيقظ على سجيع عطية وهادي حبيش في عكار، وسليمان عبيد في طرابلس، وميشال معوض ومجد حرب ورياض طوق في الشمال الثالثة، وفارس سعيد ونعمة افرام في جبيل، ونعمة افرام والكتائب وفريد الخازن و«الوقح» منصور البون الذي يريد مقعداً لابنه فؤاد من حصة القوات في كسروان، وميشال المر والكتائب والطاشناق و«وقح» آخر من آل صليبا يريد مقعداً من حصة القوات في المتن، وأنطون الصحناوي وبولا يعقوبيان والكتائب والطاشناق في الأشرفية، وميشال ضاهر وسيزار معلوف وغيرهما العشرات في زحلة، مروراً بنائب يدعى راجي السعد في عاليه، تقول المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس بكل وقاحة في عشاء في مطعم بيروتي إنها تحلم برؤيته رئيساً للجمهورية لمجرد أنه cousin لصديقها الصحناوي.

 

مشكلة جعجع أنه حقق شعبيته عبر القتال والتهديد والوعيد، بينما يسرح هؤلاء ويمرحون بالقفز بين مركب إلى آخر ومن عهد إلى آخر، من دون أن يستطيع تخوينهم أو تخويفهم بالعقوبات الأميركية أو بالمقاطعة السعودية، لأنهم أميركيون وسعوديون أكثر منه بكثير، ولا يمكنه مزاحمتهم في الدفع لأن لديهم واردات لا تنضب من شركات لا تهدأ، بينما هو مقيّد بسقف «خرجية» محددة قد تتقلّص مع معرفة اللاعبين الاقليميين والدوليين أنه لا يزاحم حزب الله أو حركة أمل أو حتى التيار الوطني الحر والطاشناق على أي مقعد نيابي وفق القانون الحالي للانتخابات، بل يزاحم أصدقاءهم حصراً ممن سبق تعدادهم. هذا الواقع يعزز لدى جعجع ذلك الهاجس الدائم عن جدوى الوجود.

 

كان وزير الخارجية السابق جان عبيد يردد دائماً أن الأقدار تلعب دورها: فيما كان لبنان ينتظر حميد فرنجية، انتُخب سليمان فرنجية، وفيما ترقّب اللبنانيون عهد بشير الجميل وجدوا أمين الجميل في القصر، وانتظروا رينيه معوض فأصبح إلياس الهراوي رئيساً.

 

وهكذا هي الأقدار التي تحيط بسمير جعجع، الذي لا يكاد يأخذ نفساً حتى تقطع عنه الأحداث أنفاسه. ينشغل بالاحتفال بانتصار ما، فيما يجني الآخرون ثماره. يودّع عون الأول ليكتشف أنه كان أرحم معه بكثير من عون الثاني، ويظن أن المرحلة هي مرحلته، ليكتشف أنها مرحلة الجميع ما عداه. يظل يدور حول الشعارات ويعلكها، لكن هذه المرة بلا كهرباء.

 

في بشري نفسها يوقفه رياض طوق على رجل ونصف، وخارجها لا يوجد أي مشروع إنمائي أو ترفيهي أو خدمي، فقط أخشاب - لا أشجار - متناثرة هنا وهناك. وبعدما كان شارل مالك الملهم صار شارل جبور. يعيد خصومه بناء قدراتهم في عام واحد، بينما يراوح مكانه رغم كل الدعم المالي.

 

يا له من ملل. يتنقل «دبّيك» معراب من على فرشة التقاعد الباردة بين الشاشات: لا يكاد يبلع أن عهد جوزف عون ما زال في عامه الأول حتى يرى رودولف هيكل متنقلاً بزخم بين جامعات الرهبانيات، هادماً في نفوس الطلاب كل ما بناه هو من أوهام، بينما الطريق لا يزال في بدايته.