في خضم التقلبات التي تسيطر على سوق العملات المشفرة، حيث يتأرجح الاهتمام المضاربي بأصول مثل بيتكوين بين الصعود والهبوط، يبرز ابتكار رقمي يحمل وعداً مختلفاً تماماً: العملات المستقرة (Stablecoins). هذه العملات، التي تُعد أبرز إنجازات القرن الحادي والعشرين في تكنولوجيا المدفوعات، اختارت مسار الثبات بدلاً من المغامرة، من خلال ربط قيمتها بالعملات الورقية التقليدية.
وهذا التحول عن التقلب نحو الاستقرار لم يكن وليد الصدفة، بل هو استلهام لـ "ماضٍ عريق" يمتد لأكثر من 200 عام، حيث فشلت الأصول المتقلبة في أن تصبح عملة يومية واسعة الانتشار، بينما توشك العملات المستقرة أن تنمو بثبات لتتحول إلى أداة دفع رئيسية تُقدّر قيمتها بسوق تريليونية.
ومع تطبيق الضوابط التنظيمية الحديثة التي تهدف إلى ضمان الثقة، فإن هذه العملات تسعى لترسيخ دورها العالمي. وعلى ضوء ذلك، تُطرح تساؤلات محورية حول مصير هذه الفئة من الأصول: هل تصبح العملات المستقرة مستقبل المدفوعات الرقمية العالمي؟، وهل تعيد هذه العملات تشكيل مفهوم الأمان النقدي الرقمي؟ وهل تتحول العملات المستقرة إلى عملة يومية عالمية وما هو مستقبلها؟
ما هي العملات المستقرة؟
تُعرف العملات المستقرة (Stablecoins) على أنها فئة خاصة من العملات المشفرة، صُممت خصيصاً للجمع بين مزايا تكنولوجيا البلوك تشين وبين خاصية الثبات المالي الضرورية. على عكس العملات المشفرة التقليدية مثل بيتكوين، التي تتأرجح قيمتها بناءً على المضاربات، فإن العملات المستقرة مثبتة القيمة (Pegged) بعملة تقليدية قوية تصدرها الحكومات، وعلى رأسها الدولار الأميركي.
وهذا التثبيت يعني أن كل وحدة من العملة المستقرة تُساوي تقريباً وحدة واحدة من العملة المرجعية (نسبة 1:1). هذا الارتباط هو ما يمنحها قيمتها المتوقعة ويثبّت سعرها، مما يجعلها الجسر الحقيقي الذي يربط بين عالم المال التقليدي والاقتصاد الرقمي.
التباين بين التقلب والاستقرار
بحسب مقال نشره آندي موخيرجي في وكالة "بلومبرغ"، واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، فإن مستقبل المدفوعات الرقمية يرسم مساراً مغايراً لما شهدته السنوات الماضية. ففي الوقت الذي يتلاشى فيه الاهتمام المضاربي بأصول العملات المشفرة الكبرى مثل بيتكوين وإيثريوم، تتجه العملات المستقرة المُرتبطة بالعملات الورقية إلى النمو بثبات لتتحول إلى أداة دفع رئيسية على سلسلة الكتل (البلوك تشين)، ويُتوقع أن تُقدر قيمتها بسوق يتجاوز تريليونات الدولارات.
هذا المسار، بحسب الكاتب، يمثل نقيضاً واضحاً لتقلبات الأصول المضاربية، ويُشير إلى أن القيمة التريليونية المستقبلية تعتمد على الاستقرار المالي الموروث من الماضي.
أوضح المقال أن هذا الطموح التريليوني يستند إلى دليل تاريخي يثير الجدل، وهو حقبة "الصيارفة الأحرار" في أميركا بين عامي 1837 و1863، حين كانت للمقرضين وحتى شركات السكك الحديدية سلطة طباعة أوراقهم النقدية الخاصة.
وأكد كاتب المقال أن العملات المستقرة الحالية (مثل Tether's USDT و Circle's USDC) لا تختلف كثيراً عن النقود الخاصة التي كانت متداولة قبل الحرب الأهلية الأميركية، إذ كانت تعاني من ضعف الثقة وتفشي التزوير وعدم اليقين بشأن تغطية الأصول، مما أدى إلى خصم قيمتها.
ويشدد الكاتب على أن تلك النقود انتهكت المبدأ الأساسي القائل بأن المال لا يجب أن يتطلب تدقيقاً، بل يجب أن يتم تداوله وفق مبدأ "لا أسئلة تُطرح". هذا التاريخ يطرح التساؤل: ما الذي سيجعل مصير العملات المستقرة أفضل من سابقاتها في القرن التاسع عشر؟
التنظيم الحديث كضمانة للثقة
لفت موخيرجي إلى أن المفتاح يكمن في التنظيم. ففي حين أن إدارة ترامب قد حظرت جهود تطوير عملة رقمية للبنك المركزي (CBDC)، فإن تشريع "قانون العبقرية" (Genius Act) يمثل خطوة نحو الأمام، حيث يُلزم العملات المستقرة المُنظمة بأن تكون مدعومة بنسبة 100بالمئة بأصول آمنة قصيرة الأجل كسندات الخزانة.
وأشار الكاتب إلى أن هذا القانون يحوّل المُصدرين إلى "بنوك ضيقة" تركز على تسهيل المدفوعات وتتجنب المخاطر التجارية التقليدية. ومع ذلك، يرى المقال أن العملات المستقرة المُنظمة ستظل غير مؤمَّن عليها، مما يستدعي مراقبة صارمة لسلوك مُصدريها لضمان ثقة الجمهور في أوقات الشدة. كما أشار إلى ورقة بحثية لمعهد أندرسن للتمويل، التي تؤكد أن بعض ولايات الماضي، مثل لويزيانا في عام 1842، نجحت في تفادي الذعر المالي عبر اشتراط دعم نقودها بالمعادن الثمينة ونشر بيانات مالية أسبوعية.
ويختتم كاتب المقال بالتأكيد على أن التحدي الحقيقي للعملات المستقرة يكمن في كيفية إدارتها لسيناريو "تدافع حقيقي" يضطر فيه المُصدر إلى بيع سندات الخزانة لتلبية طلبات الاسترداد. وأشار المقال إلى مفارقة إنقاذ عملة مشفرة بأموال عامة، في حركة وُلدت من مبدأ معادٍ لمؤسسات التمويل الكبرى.
وفي نهاية المطاف، يُسند موخيرجي القرار النهائي للماضي، حيث يذكر أن الدرس الأهم المستفاد من التاريخ هو أن السياسيين قرروا أن النقود تعمل بشكل أفضل كـمنفعة عامة. وخلص إلى أن الرئيس ترامب لم يثبت بعد أن الرئيس لينكولن وخلفاءه كانوا مخطئين في قصر سلطة إصدار العملة على جهات مُنظمة ومرخص لها.
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" يرى الأكاديمي والمستشار الاقتصادي الدكتور زياد عربش أن العملات المستقرة ابتكار مالي رقمي مهم ويُعد من أبرز تطورات المدفوعات الرقمية في القرن الحالي، وبإمكانها في أن تصبح عملة يومية عالمية تُستخدم في المدفوعات الرقمية بثقة وأمان، اعتماد اًعلى ضمان دعمها بأصول نقدية آمنة وتنظيم صارم.
4 مخاطر
مع ذلك يذكر الدكتور عربش أن سلبياتها عديدة، ويكتنفها مخاطر عديدة منها:
خطر فقدان الثقة إذا لم تكن العملات مدعومة بشكل شفاف بنسبة 100 بالمئة أو إذا حدث "فك الارتباط" بين العملة المستقرة والعملات التقليدية، مما قد يقلل من قيمتها فجأة.
بروز المخاطر التقنية والأمنية، مثل اختراق المحافظ الرقمية أو فقدان المفاتيح الخاصة التي تؤدي لخسائر مالية.
وجود مخاطر مالية ونظامية، كتأثيرها على استقرار النظام المصرفي التقليدي في حال كان هناك انتقال كبير وغير متوقع للأموال من البنوك للعملات المستقرة، الأمر الذي قد يؤدي لأزمات سيولة أو تقلبات مالية.
هناك مخاطر غسل الأموال والتهرب من العقوبات بسبب الطبيعة الرقمية واللامركزية لبعض هذه العملات.
وبالعموم هناك ضرورة التوافق مع الأطر التنظيمية المتنوعة في دول مختلفة، مما يشكل تحدياً للشركات المصدرة. بحسب الدكتور عربش، الذي أشار إلى أنه رغم الفوائد الكبيرة، تعتمد سلامة واستقرار العملات المستقرة بشكل كبير على الأطر التنظيمية الصارمة، الشفافية، والإشراف المباشر لضمان حمايتها للمستهلكين والنظام المالي الأوسع".
مفهوم الأمان النقدي الرقمي
ورداً على سؤال فيما إذا كانت العملات المستقرة تعيد تشكيل مفهوم الأمان النقدي الرقمي قال الدكتور عربش: "بقراءتنا لتاريخ تطور مكانة الأموال عبر الماضي فان الثقة تعني العنوان الرئيس وتحدي العملات المصدرة من أطراف خاصة، كعدم وجود ضمان كافٍ أو ضعف التنظيم. لكن العملات المستقرة الحديثة، خاصة تلك التي تنظمها قوانين مثل قانون GENIUS في الولايات المتحدة، تطبق قواعد صارمة ويتم دعمها بالأصول الحكومية الآمنة كالـ Treasury Bills مع حظر توزيع الفوائد مباشرة على حاملي الرموز، بهدف تقليل المخاطر وبناء مفهوم الأمان النقدي الرقمي بتوفير ضمانات ورقابة رقابية ناظمة تضمن سلامة وكفاءة هذه العملات.
وتشير التوقعات إلى نمو هائل في سوق العملات المستقرة، مع توسع الأطر التنظيمية والتشريعات الداعمة في مختلف الأسواق العالمية مثل هونغ كونغ والولايات المتحدة. هذا النمو مدعوم أيضاً بالتطور التكنولوجي، مثل تطوير تقنيات البلوك تشين مفتوحة المصدر، بالإضافة إلى زيادة الاهتمام المؤسسي والمستخدمين النهائيين في تطبيقات المدفوعات عبر الحدود والاستثمار والتداول، طبقاً لما قاله الدكتور عربش.
ولكن هل تتحول العملات المستقرة إلى عملة يومية عالمية؟
ورداً على هذا السؤال قال الدكتور عربش: "مع أن العملات المستقرة تتجه بمسار لأن تصبح نقداً رقمياً يومياً، فإنها حالياً تعد امتداداً للنقود الورقية التقليدية بدلاً من استبدالها، كما تعزز هيمنة الدولار. ومع ذلك، هناك تحديات مثل كيفية التعامل مع حالات سحب واسعة النطاق وحماية المستثمرين في ظل عدم وجود تأمين على هذه العملات كما هو الحال في البنوك العادية. وبالتالي فالتنظيم الصارم والإشراف المستمر سيكونان عاملين حاسمين في نجاحها وانتشارها اليومي العالمي".
وأضاف: "بيد أن تفضيل الحكومات مثل الولايات المتحدة للقطاع الخاص على العملات الرقمية المركزية يجعل مستقبلها مرتبطاً بالأسواق الخاصة والمشاريع التنظيمية".
ولفت إلى أن العملات المستقرة تُظهر مؤشرات قوية لتصبح جزءاً أساسياً من مدفوعات المستقبل الرقمي العالمي، مع إعادة تشكيل مفهوم الأمان النقدي الرقمي عبر الضوابط الصارمة الجديدة ودعم أصول آمنة، حيث يتجه سوقها نحو نمو هائل ومدعوم بالسياسات التقنية والتشريعية، وهي في طريقها لتصبح عملة رقمية يومية في بعض الأسواق، لكن التحول العالمي الكامل يتطلب تجاوز تحديات تنظيمية وتقنية مهمة لضمان الاستقرار والثقة.
أميركا تعلن عصر الدولار الرقمي
إرساء واقع جديد في عمليات الدفع
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي والمالي علي حمودي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن العملات المستقرة تقود تغييرات جذرية في قطاع المدفوعات عالمياً. ويتوقع أن تؤدي رياح هذا التغيير إلى إرساء واقع جديد وملموس في عمليات الدفع خلال المستقبل القريب.
وأضاف: "برزت العملات المستقرة، كشكل من أشكال النقد الرقمي يُصدر كرموز على سلسلة الكتل (البلوك تشين)، كبديل عالمي للبنية التحتية التقليدية للمدفوعات. يُصدر معظمها حالياً بالدولار الأميركي، وقد تضاعف تداول العملات المستقرة خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، لكنها لا تزال تُشكل حوالي 30 مليار دولار فقط من المعاملات اليومية - أي أقل من 1 بالمئة من التدفقات النقدية العالمية".
ورجح حمودي "أن تتجاوز تقنية العملات المستقرة ساعات العمل المصرفي والحدود العالمية، مُقدمةً تحسينات جوهرية على البنية التحتية الحالية للمدفوعات، بما في ذلك السرعة والتكلفة والشفافية والتوافر وزيادة شمول الفئات التي لا تُقدم لها الخدمات المصرفية خدمات كافية. مع ذلك، تُستخدم العملات المستقرة اليوم في الغالب كوسيط، مما يتطلب سيولة وفيرة ومنافذ لتبادل الأصول الرقمية إلى العملات الورقية التقليدية".
تداول العملات المستقرة آخذ في النمو
وفي ضوء هذه البنية التحتية المُتطورة، أشار الخبير الاقتصادي والمالي حمودي إلى أن تداول العملات المستقرة آخذ في النمو. وقال: "تضاعفت القيمة الإجمالية للعملات المستقرة الصادرة لتصل إلى 250 مليار دولار أميركي اليوم، مقارنةً بـ 120 مليار دولار أميركي قبل 18 شهراً، ومن المتوقع أن تتجاوز 400 مليار دولار بحلول أوائل عام 2026، وأن تصل إلى تريليوني دولار بحلول عام 2028.
ورداً على سؤال: إلى أين يتجه سوق العملات المستقرة؟ قال حمودي: "بناءً على حجم الإصدارات الحالي، لم تُظهر العملات المشفرة الرمزية بعد إمكاناتها الحقيقية في إحداث تحول جذري في المدفوعات العالمية. ومع ذلك، قد تكون العملات المستقرة عند نقطة تحول. ولكن السؤال ما هي أهم مؤشرات نضج السوق؟ وهنا يجيب حمودي:
توافر البنية التحتية الأساسية: لكي تعمل العملات المستقرة بكفاءة، يجب أن يتمتع مستخدموها بإمكانية الوصول إلى البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك منصات الدخول والخروج السلسة، والمحافظ الرقمية (التي يمكن من خلالها إرسال واستقبال المعاملات)، والحفظ الآمن (تخزين المفاتيح الخاصة). ومن المرجح أن يكون تطوير هذه الأنواع من الخدمات علامة أخرى على تزايد نضج السوق".
زيادة أحجام المعاملات: لعلّ أهم مؤشر على ذلك هو تجاوز أحجام معاملات النقد الرمزية لحالات استخدام مثل تداول العملات المشفرة، مما يعكس زيادة القبول والاعتماد في الأسواق التجارية وأسواق رأس المال. ويمكن أن يكون مضاعفة تداول العملات المستقرة خلال الـ 12 إلى 18 شهراً القادمة مؤشراً قوياً على ازدياد نضج السوق.
وختم بقوله: "لذا، وبدءاً من تطوير اللوائح التنظيمية، وصولاً إلى تحسين تكنولوجيا الأمن، وتزايد توقعات المستهلكين، حفّز ظهور العملات المستقرة كمنافس قوي في مجال المدفوعات العالمية نقلة نوعية في تقديم الخدمات المالية. ويمكن لكيفية استجابة المؤسسات المالية القائمة وابتكارها أن تُحدد أهميتها في عولمة تبادل القيمة الفورية وكيفية تخزينها. ويمكن أن تُرسي طريقة تفاعلها الأساس لتطوير المزيد من حالات استخدام الأصول الرقمية في المستقبل القريب.
Skynews