<
25 November 2025
"منصة الشراء العام" نافذة لبنان إلى الشفافية

مايا توما  - يعكس تراجع لبنان في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، عمق الأزمة البنيوية في إدارة الشأن العام والحاجة المُلِحّة إلى إصلاحات شاملة لمكافحة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، حيث سجّل لبنان 22 من 100 واحتل المرتبة 154 من أصل 180 دولة. وفي هذا الإطار، يُعدّ إنشاء منصّة الشراء العام خطوة محورية ضمن مسار الإصلاح، كواحدة من أبرز الإجراءات المنصوص عليها في قانون الشراء العام رقم 244/2021 الصادر في 19 تموز 2021، لتعزيز الشفافية والمساءلة في عمليات الشراء العام.

ينصّ القانون في مادته السبعين، على إنشاء منصّة إلكترونية موحّدة تُديرها هيئة الشراء العام، تُنشر من خلالها جميع المناقصات والدعوات والنتائج والعقود والمستندات المتعلقة بعمليات الشراء، بما يضمن الشفافية والمنافسة العادلة بعمليات الشراء. وقد تمّ إطلاق هذه المنصّة رسميًا عام 2022 بإشراف الهيئة برئاسة جان العليّة، وبدعم من البنك الدولي.

ومع بداية عهد سياسي جديد في لبنان وعودة الحديث عن الإصلاح والحوكمة الرشيدة، وفي ظلّ مطالبة المجتمع الدولي بضرورة مكافحة الفساد كشرط أساسي لأي دعم للبنان، تبرز أهمية تفعيل الهيئات الرقابية، وعلى رأسها هيئة الشراء العام، التي تمثل أحد أهم أدوات الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام والحدّ من انتشار الفساد.

خطوة لتطبيق القانون 

تلعب هيئة الشراء العام دورًا أساسيًا في الإشراف على عمليات الشراء التي تنفّذها الإدارات والمؤسسات العامة، ومراقبة حسن تطبيق القوانين، إضافةً إلى التنسيق بين مختلف الجهات الشارية وتقديم الدعم الفني والإرشاد اللازم لها. كما تتولّى الهيئة نشر جميع الإعلانات والإشعارات الخاصة بالمشتريات، وإجراءات التأهيل والتلزيم، عبر المنصّة الإلكترونية المركزية المعتمدة، وإلزام الجهات الشارية باستخدامها وفق الأصول القانونية.

وتشكّل المنصّة الإلكترونية لهيئة الشراء العام نظامًا مركزيًا عبر الإنترنت لإدارة ومتابعة مختلف مراحل الشراء العام. وتبرز أهميتها في تعزيز الكفاءة والشفافية عبر رقمنة الإجراءات وإتاحة المعلومات المتعلقة بالمناقصات والخطط السنوية والاعلانات وإجراءات التأهيل والعقود. وتوفّر المنصّة وصولًا مجانيًا وسهلًا إلى البيانات أمام جميع أصحاب الشأن، مما يسهم في توحيد الإجراءات، الحدّ من الأخطاء، وتسريع المعاملات. كما تعتبر أداة فاعلة للصحافيين والجهات الرقابية في تتبّع عمليات الشراء العام وتدقيقها.

وتتولى المنصّة أيضًا نشر الإعلانات الخاصة بالمشتريات وإجراءات التأهيل والتلزيم، إلى جانب عرض الخطط السنوية للجهات الشارية وتنظيم بيانات المشتريات ضمن قاعدة مركزية تتيح سهولة الوصول إليها وتحليلها. ومن خلال إدارتها الإلكترونية لعمليات الشراء، تساهم المنصّة في تعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة، إذ تهدف أساسًا إلى توفير وصول مجاني وسهل إلى المعلومات المتعلقة بعمليات الشراء العام، وتسهيل الرقابة على أداء الجهات الشارية، بما يعزّز مساءلة السلطات المتعاقدة. ويُعدّ إنشاء هذه المنصّة ركنًا أساسيًا في استراتيجية الدولة لتحسين كفاءة وشفافية قطاع الشراء العام.

تجدر الإشارة إلى أن المنصّة الحالية ليست منصة شراء إلكتروني متكامل، وبالتالي لا تضمّ جميع الوظائف، حيث تقتصر وظيفتها على تجديد أو تعديل الإعلانات وتحميل دفاتر الشروط والمستندات وتحديثها عند الحاجة، ونشر النتائج النهائية مع اسم الفائز وقيمة العقد. إلى جانب ذلك، تمكّن المنصّة المواطنين ووسائل الإعلام من مراقبة كل ما يتعلّق بعمليات الشراء العام، من خلال:

  • الاطلاع على جميع المناقصات المنشورة حسب الجهة أو التاريخ.

  • معرفة نتائج الشراء والعقود المبرمة تعزيزًا لمبدأ الشفافية.

  • تحليل بيانات الشراء العام عبر لوحة البيانات المفتوحة (Open Data Dashboard).

أما في حال بدء تطبيق الشراء الالكتروني المتكامل سيتم تطوير المنصة لتشمل وظائف عدة مستقبلًا، ومنها:

  • استقبال العروض من المتعهّدين إلكترونيًا (Online Submission).

  • فتح العروض إلكترونيًا أمام اللجنة المختصّة.

  • تجديد أو تمديد العقود القائمة إلكترونيًا مع توثيق الأسباب والموافقات القانونية.

كما تتيح المنصّة للمورّدين:

  • تجديد التسجيل السنوي في سجلّ المورّدين إلكترونيًا.

  • تحديث بياناتهم القانونية والمستندات الرسمية (كالسجل التجاري والإفادات الضريبية).

  • التقدّم للمناقصات الجديدة أو متابعة حالة العروض المقدّمة ومعرفة نتائجها.

الواقع اللبناني في الشراء العام

في سياق الحديث عن واقع الشراء العام في لبنان، أكّد رئيس هيئة الشراء العام، الدكتور جان العليّة، أن الشفافية تلعب دورًا أساسيًا في مكافحة الفساد، مشيرًا إلى أن منصّة الشراء العام تسهم بشكل فعّال في هذا المجال من خلال نشر جميع الصفقات وعمليات الشراء التي تقوم بها الإدارات العامة. وأوضح العليّة أن "هيئة الشراء العام ليست هيئة وطنية لمكافحة الفساد، بل يقتصر دورها على نشر تفاصيل عمليات الشراء لتمكين الرأي العام من مراقبة مجريات هذه العمليات".

وأضاف العليّة أن أي جهة ترغب في التحقيق في قضايا متعلقة بعمليات الشراء العام يمكنها الرجوع إلى البيانات المنشورة على المنصة والاطلاع على المعلومات المتاحة لتوسيع نطاق تحقيقاتها. وأشار إلى أن الجهات الشارية أصبحت تدرك أن الرأي العام يتابع ما يُنشر على المنصة، الأمر الذي جعلها أكثر مسؤولية ودقّة في نشر المعلومات.

وفي شرح مبسّط لدور المنصّة، قال العليّة إن "منصّة هيئة الشراء العام نقلت الصفقات من العتمة إلى النور"، معتبرًا أنه لا يمكن القضاء على الفساد بالكامل، لكن يمكن للدولة والهيئات الرقابية الحدّ من انتشاره. وكشف أنّه منذ 29 تموز 2022، تاريخ بدء العمل بالمنصّة، شهد لبنان تراجعًا فعليًا في الصفقات المخالفة للقوانين.


كما أكّد العليّة أن معظم الجهات المعنية بعمليات الشراء العام تلتزم بالنشر على المنصة، معلنًا أن هيئة الشراء العام ستصدر قريبًا تقريرًا مفصّلًا يحدّد الجهات التي تلتزم بالنشر الكامل وتلك التي تخالف القوانين أو تتأخر في الالتزام بالمهل المحددة. وأوضح أن هناك موجبين أساسيين لضمان الشفافية والالتزام هما، نشر المعلومات المتعلقة بعمليات الشراء والتأكد من أن الصفقات المنشورة تتطابق مع القوانين المرعية الإجراء. وختم العليّة حديثه بالقول: "نحن في بداية الطريق الصحيح نحو مكافحة فعليّة للفساد".

Prozorro وTUNEPS تجارب دولية ملهمة

في عدد من دول العالم، برزت تجارب ناجحة أثبتت أن منصّات الشراء العام الإلكتروني يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، ومن أبرز هذه التجارب التجربة الأوكرانية والتجربة التونسية.

في تونس، ساهمت منظومة الشراءات العمومية المعروفة باسم TUNEPS في مكافحة الفساد من خلال تعزيز الشفافية والحدّ من الممارسات غير التنافسية، إذ أن رقمنة جميع مراحل الصفقات العمومية - من الإعلان عنها وفتح العروض، وصولًا إلى إبرام العقود إلكترونيًا - سهّلت عمليات الرقابة والمساءلة بشكل كبير.

أما التجربة الأوكرانية، فتُعدّ من أنجح التجارب العالمية في هذا المجال. فقد أطلقت أوكرانيا منصّتها المعروفة باسم Prozorro، وهي مخصصة لتسجيل المشتريات العامة والتموين الحكومي. وقد تحوّلت هذه المنصّة إلى نموذج عالمي للشفافية ومكافحة الفساد في إنفاق المال العام.

وقد وُلدت Prozorro بعد ثورة "الميدان الأوروبي" عام 2014، بهدف محاربة الفساد وضمان المساواة بين المورّدين وتحسين فعّالية استخدام الموارد الحكومية. وهي ليست مجرّد موقع إلكتروني، بل نظام لا مركزي متكامل يتكوّن من بوابة مركزية تُنشر عليها جميع المناقصات، ومنصّات تجارية خاصة يُسجّل فيها المورّدون للمشاركة، إلى جانب قواعد بيانات مفتوحة تقوم على مبدأ "الجميع يرى كل شيء". ونظرًا للنتائج اللافتة التي حقّقتها هذه التجربة، تمّ اعتمادها كنموذج عالمي في الشفافية الرقمية، كما نالت جوائز دولية من منظمات عدّة، من بينها منظمة الشفافية الدولية والبنك الدولي.

العمل نحو شراء إلكتروني متكامل في لبنان

وفي مقارنة بين التجربة اللبنانية الصاعدة والتجارب العالمية، لا سيّما الأوكرانية، تؤكد خبيرة الشراء العام، رنا رزق الله، وهي المساهمة في صياغة قانون الشراء العام، أنّ القانون اللبناني فرض في العام 2022 على الجهات الشّارية نشر كافة المعلومات والتفاصيل المتعلقة بعمليات الشراء على منصة خاصة بالشراء العام، وهي المنصة الالكترونية المركزية لدى هيئة الشراء العام.

وفي البداية، كانت عملية النشر تتم عبر موقع إلكتروني تابع لهيئة الشراء العام، حيث كانت الجهات ترسل بيانات عمليات الشراء إلى الهيئة، ليقوم فريق العمل بإدخالها ونشرها. أما اليوم، فالمنصة المطوّرة موجودة منذ نحو خمسة أشهر، وتقوم الجهات الشّارية بنشر المعلومات عليها بشكل تلقائي. 

وتوضح رزق الله أن المنصة لا تزال في مرحلة التطوير، وهناك بعض الثغرات التي تحتاج إلى المعالجة. ويعمل فريق عمل هيئة الشراء العام على معالجة هذه الثغرات للوصول إلى استخدام سهل وسليم للمنصة،  بما يتيح للجهات الشّارية نشر معلوماتها بسهولة  وشفافية. أما المرحلة المقبلة من تنفيذ الشراء العام الالكتروني، والتي ينص عليها قانون الشراء العام، فهي سوف تتيح إجراء كامل العملية على المنصة بدءًا من الإعلان عن المناقصات، تقديم العروض، فتحها، تقييمها، وإدخال مختلف التفاصيل الأخرى، مع إمكانية الاستغناء عن الجلسات الوجاهية، ما يعزز الشفافية بشكل كبير.

حاليًا، يتم الإعلان عن طلبات الشراء عبر المنصة، كما يتم لاحقًا نشر الجهة الفائزة بالعقد، بينما تبقى عملية فتح وتقييم العروض في مركز الإدارة العامة. إلا أن الشراء الإلكتروني الكامل الذي ينص عليه القانون ويسعى الفريق الفني لتحقيقه يسمح بنشر كل مسار وتفاصيل أي عملية شراء في القطاع العام، على غرار التجربتين التونسية TUNEPS والأوكرانية Prozorro.

وتوضح رزق الله آلية العمل: "تقوم كل وزارة بإطلاق إعلان احتياجاتها على المنصة، ويحضّر العارض عرضه والمستندات المطلوبة إلكترونيًا عبر المنصة، كون إدارات الدولة موصولة بالحكومة الإلكترونية E government. في مرحلة لاحقة، تُفتح وتُقيّم العروض إلكترونيًا، أو تُصور الجلسة إذا كانت حضورية، وتُنشر النتائج مباشرة على المنصة. فموجب النشر يحقق الشفافية، مع الإشارة إلى أن المنصة ما زالت في مرحلة تطوير تطبيق نظام الشراء الإلكتروني الكامل E-Procurement System."

وشدّدت رزق الله على أن تحقيق الشراء الإلكتروني الكامل يساهم بشكل كبير في مكافحة الفساد لأنه يحدّ من التفاعل المباشر بين  الشاري العمومي والعارضين، مشيرة إلى أن هذا الأمر ليس صعبًا، حيث تعتمد جميع دول الخليج العربي على أنظمة الحكومة الإلكترونية E-Government.

من جهة أخرى، تشير مسؤولة قسم الاقتصاد في المدن، الصحافية عزة الحاج حسن  إلى أهمية منصة الشراء العام في تسهيل عمل الصحافيين ومتابعتهم لملفات الفساد، مؤكدة أن المنصة تُسهل مراقبة الصفقات والعقود المبرمة. وأضافت: "هذه المنصة جعلت عملية نشر العقود أسهل كثيرًا، وأصبح بإمكاننا معرفة العقود التي تمرّ عبر هيئة الشراء العام وتلك التي لا تمرّ، ما يجعلها نقطة انطلاق مهمة للصحافيين الباحثين عن الحقيقة في الملفات الاقتصادية، إذ أصبحت تفاصيل العقود متاحة لمختلف القطاعات العامة".

ولفتت الحاج حسن إلى أن الدور الأبرز للمنصة يكمن في كشف الاتفاقيات الرضائية، التي تثير تساؤلات حول هدر المال العام ووجود صفقات مشبوهة ورشاوى. وقالت: "في السابق كنا نبذل جهدًا كبيرًا لمعرفة هذه الاتفاقيات والأطراف المشاركة فيها، لكن مع وجود المنصة أصبح الوضع أكثر وضوحًا."

ورغم ما تقدمه المنصة من فوائد، أشارت الحاج حسن إلى ضرورة تحسين سرعة نشر المعلومات والتفاصيل المتعلقة بعمليات الشراء العام، قائلة: "هناك بعض التأخير الذي يحتاج إلى معالجة". كما شدّدت على أهمية نشر جميع مراحل العملية، وليس نتائج العقد فقط، موضحة: "في كثير من الأحيان نتابع ملفًا معينًا ونكتشف أن الخلل وقع في مراحل سابقة قبل إبرام العقد، ومن هنا تكمن أهمية نشر كامل مسار العملية منذ بدايتها". 

نحو إدارة شفافة للمال العام

تشكّل المنصّة خطوة نوعية في إدارة المال العام، حيث أتاحت نشر جميع المناقصات والعقود والنتائج إلكترونيًا، ما يضمن وصول المعلومات إلى جميع الأطراف، من المواطنين والإدارات العامة إلى المورّدين والإعلاميين. كما مكّنت المنصّة الجهات الرسمية من تنفيذ عمليات الشراء بشكل رقمي كامل، بدءًا من الإعلان عن المناقصات، وصولاً إلى نشر النتائج النهائية. كما وساهمت هذه المنصّة في الحد من التدخل البشري وتقليص فرص المحسوبيات والفساد، وجعل كل عملية شراء قابلة للتتبع والمراجعة.

بالنسبة للمورّدين والشركات، وفرت المنصّة بيئة أكثر عدلاً وتنافسية من خلال نظام تسجيل إلكتروني مفتوح ومتاح للجميع. وبفضل تعاون هيئة الشراء العام مع شركاء دوليين، أبرزهم البنك الدولي، أصبحت المنصّة نموذجًا إصلاحيًا في الحوكمة الرقمية، وتشكل خطوة أساسية نحو إدارة شفافة وعصرية للمال العام في لبنان.

يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول "قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية" تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية - CFLI.