<
22 November 2025
الرياض وواشنطن: شراكة متجددة تضع لبنان أمام اختبار جديد

أنطوان الأسمر

أتت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في لحظة تُعَدّ من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ التفاعلات الشرق أوسطية – الأميركية. فهذه الزيارة تشكّل محطة مفصلية في إعادة ضبط هندسة النظام الإقليمي، في ظل تحوّلات عالمية متسارعة تدفع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة إلى إعادة تعريف مصالحهما المشتركة وحدود أدوارهما في الإقليم. وفي حين تبدو الأولوية المعلنة للبلدين مرتبطة باستقرار أسواق الطاقة والتعاون الدفاعي، فإن الأجندة الفعلية أكثر تعقيداً، وتشمل مقاربة شاملة لإدارة التوازنات مع الصين واحتواء الطموحات الإقليمية لإيران، فضلاً عن إعادة صوغ مفهوم التحالف التقليدي بين واشنطن والعواصم العربية.

على هذا الأساس، يصبح لبنان جزءاً من صورة أكبر، لا بوصفه محوراً مستقلاً، بل باعتباره ساحة اختبار دائمة لفعالية أي تفاهم أميركي – سعودي جديد. فالدولتان، رغم اختلاف مقارباتهما السابقة، تلتقيان اليوم حول ضرورة بناء بيئة شرق أوسطية أكثر استقراراً، ولو من خلال الضغط على الأطراف المحلية لإعادة إنتاج توازن جديد داخل الدول الهشّة. ولبنان، الذي يرسو حالياً في حال مقلقة من التعثّر السياسي نتيجة العقم في معالجة ملف السلاح خارج الدولة، إلى جانب استمرار الانكشاف المالي والانقسام الاجتماعي، هو من أكثر الساحات قابلية للتأثر بهذا المسار.

تتجه الرياض في السنوات الأخيرة إلى التموضع كقوة إقليمية مستقلة تعتمد مقاربة المصالح المتبادلة بدل التحالفات التقليدية الصارمة. يعني هذا التوجّه أنها ستسعى إلى مقاربة الملف اللبناني من زاوية استراتيجية أوسع، لا من خلال دعم فريق سياسي محدّد، بل عبر تشكيل منظومة ضغط متدرجة لإحداث توازن جديد داخل الدولة اللبنانية. وفي واشنطن، يدرك صانعو القرار أن أي استقرار في لبنان يمرّ عبر إعادة توحيد مؤسسات الدولة وإنهاء فائض القوة السياسي والعسكري لدى حزب الله، لكنهم في الوقت نفسه يرفضون الانخراط في مواجهة مباشرة. هنا تظهر أهمية الدور السعودي كمحرّك إقليمي قادر على التأثير في البنية السنية السياسية، وفي الشرعية العربية التي تحتاجها أي تسوية داخلية.

من هذه الزاوية، تصبح زيارة بن سلمان مدخلاً لتفاهم غير معلن حول إدارة النفوذ في لبنان: الولايات المتحدة تضبط الإطار العام، والسعودية تعمل على إعادة هيكلة القوى التقليدية بما يخدم ميزان قوى يحُدّ من قدرة إيران على التحكم بمفاصل القرار اللبناني. لا يعني ذلك دفعاً فورياً نحو مواجهة، بل نحو تكريس توازن جديد يفرض على حزب الله إعادة حساباته من دون كسر الاستقرار.

لا يقل البعد الاقتصادي في هذه الزيارة أهمية عن البعد السياسي. فالسعودية، المنخرطة في مشاريع اقتصادية ضخمة ضمن رؤية 2030، تحتاج إلى بيئة إقليمية خالية من الانهيارات التي قد تتسرب عدواها إلى الداخل الخليجي. ولبنان، رغم ضعفه، لا يزال يحتل موقعاً حساساً في حسابات الاستقرار المالي والأمني للمنطقة. مع ذلك، لن تكون العودة السعودية إلى بيروت شبيهة بما كانت عليه قبل سنة 2016. فهي مشروطة بإصلاحات بنيوية، وبضبط منظومة الفساد، وبتعزيز سلطة الدولة على مواردها.

في المقابل، تدرك واشنطن أن الفراغ الاقتصادي اللبناني يشكّل مدخلاً لإيران لزيادة حضورها الاجتماعي، عبر شبكات الدعم والخدمات. لذلك فإن أي تفاهم مع الرياض يشمل آليات لدعم الجيش ومؤسسات الدولة، ضمن إطار رقابي صارم، وتحت سقف سياسي واضح يمنع الانزلاق نحو تمويل غير مشروط. وبذلك يصبح الاقتصاد أداة مزدوجة: تحفيز لمن يريد إعادة بناء الدولة، وعقاب لمن يعطّلها.

يشهد التعاون الأمني السعودي – الأميركي في السنوات الأخيرة تطوراً نوعياً، سواء على مستوى الدفاع الجوي أو المنظومات الاستخباراتية. وانعكاس هذا التطور على لبنان سيكون مرتبطاً بقدرة الجيش على الحفاظ على حدّ من الاستقلالية عن الصراعات الداخلية. ورغم أن الدعم العسكري الأميركي للجيش ظل ثابتاً لعقود، فإن إدخال الرياض كشريك في هذا الدعم من شأنه أن ينتج مقاربة أكثر صرامة تجاه ملف السلاح غير الشرعي، خصوصاً أن السعودية تنظر إلى استقرار لبنان كجزء من أمنها القومي، في ظل التوترات البحرية والتهديدات المتنقلة عبر الحدود.

لكن هذا المسار لا يعني مواجهة مباشرة مع حزب الله، بل ضغط تدريجي يهدف إلى فرض قواعد اشتباك سياسية جديدة: تعزيز الجيش كمؤسسة وحيدة شرعية للسلاح، ربط أي مساعدات بإجراءات انضباطية، ورفع كلفة أي محاولة لجرّ لبنان إلى صراعات إقليمية.

ربطاً بكل ذلك، ليست زيارة بن سلمان إلى واشنطن حدثاً عادياً في سياق العلاقات الثنائية فحسب، بل جزء من إعادة بناء المشهد الاستراتيجي في الإقليم. لن يكون التأثير في لبنان فورياً، لكنه سيكون تراكميّاً. ففي المرحلة المقبلة، ستتبلور خطوط نفوذ جديدة، وستخضع القوى الداخلية لامتحان قدرتها على التكيّف مع المشهد المتغيّر.