لم تكن زيارة وليد جنبلاط قبل أيام لجامعة الروح القدس في الكسليك، بالأمر العابر. فالرجل يختار خطواته بعناية، ويبرع في اعتماد الرمزيات لتمرير مواقفه السياسية. لربما على امتداد الطريق من بيروت إلى الكسليك، جال جنبلاط في دفاتر ذاكرته. استذكر محطات قتالية كثيرة، ونزاعات كثيرة ومنافسات على الساحة السياسية الداخلية، وعرف كيف يتوازن ويسير على حبال وتناقضات. في الانتخابات الأخيرة نجح جنبلاط بتحييد خصومه في الطائفة، ولم يعد يشعر بتهديدات جدية على المستوى السياسي، فعبّد الطريق أمام نجله تيمور. فهو بخلاف كل القوى الأخرى التي لديها منافسين في طوائفها وبيئاتها. لكن يشاء قدره أن يكون في مواجهة قصوى، فمعركته حالياً مع إسرائيل، وكل محاولاتها للتدخل والتأثير في البيئة الدرزية، ولذلك خلق سجالاً مفتوحاً مع الشيخ موفق طريف، وعارض كل ما يقوم به الشيخ حكمت الهجري، وشدد على خياره العربي وأهمية انخراط دروز السويداء بالمشروع العربي في سوريا، معارضاً كل الدعوات للانفصال أو التقسيم.
هناك في الدير يقيم الأباتي بولس نعمان، والذي كان رئيساً للرهبنة المارونية، ويرتبط معه بعلاقة جيدة تعود إلى سنوات الحرب، وتحديداً ما بعد اغتيال كمال جنبلاط. عبرت محطات كثيرة في ذاكرة جنبلاط: سنوات الحرب، والاجتياح، الصراع على لبنان، وجهه وهويته، موقعه ودوره، وحدته أم دعوات تقسيمه. يبقى الأهم في توقيت الزيارة، أنها أتت قبل أيام من زيارة البابا لاوون، وفي ظل تحولات كبرى تشهدها المنطقة، ورياحها تعصف بلبنان، بينما الهم الذي يسكن جنبلاط هذه الأيام هو الحفاظ على "هذا اللبنان الكبير"، فلا يريده أكبر كما طمح حزب الله ذات يوم بعد دخوله إلى سوريا والسيطرة على أراض هناك، ولا يريده أصغر كما تنادي بعض المجموعات أو القوى التي تنشد التقسيم أو الانفصال أو الطلاق.
يتعايش جنبلاط مع مشاعر متناقضة، لكن لكل شعور منها "نوستالجيا" خاص به، من ترحمه على أيام السلطنة العثمانية، إلى الترحم على سايكس بيكو، وما بينهما شعور بالانتماء إلى لحظات سطوة المشروع القومي العربي، والنضال في سبيل فلسطين وإسقاط 17 أيار، وصولاً إلى تحرير الجنوب، الذي يطالب مجدداً بالسعي لإعادة تحريره. يعلم جنبلاط جيداً، أن قوة الدفع الدولي غيرت كل التوازنات والموازين في المنطقة، وعصفت بلبنان. لذا، فإن همه يتركز على حماية لبنان الكبير، والذي كان لرهبانية الكسليك دور أساسي في التأسيس له. ما تعيشه المنطقة يشبه ما عايشته بعد اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1982، والذي أدى إلى فرض اتفاق 17 أيار في العام 1983، ولكن في حينها تمكن إلى جانب نبيه بري من الإطاحة بهذا الاتفاق في انتفاضة 6 شباط. وقائع اليوم تختلف عن ما مضى، فسابقاً كان الاتحاد السوفياتي موجوداً، وكان لسوريا دورها وتأثيرها ووجهتها. اليوم تبدو المنطقة كلها منخرطة في المشروع الأميركي، ولم يعد للاتحاد السوفياتي وجود، بينما روسيا اليوم منشغلة بحربها الأوكرانية. أما سوريا، فهي -بنظر جنبلاط- تنهض وتتطور وتواكب العصر، والعلاقة جيدة معها، وهي ليست في وارد تغيير الو
تزامنت الزيارة مع تجدد البحث على المستويات الداخلية والخارجية بالتزام الجميع باتفاق الطائف وتطبيقه كاملاً، وهو ما تضج به الأروقة والكواليس. جنبلاط يعتبر نفسه أحد أبرز عرابي الطائف، وهو خرج قبل سنوات ليقول بوضوح إن المعركة التي خاضها في سوق الغرب هي التي أسهمت بتعديل موازين القوى، لذهاب الأفرقاء إلى الطائف والاقتناع بوقف الحرب. اليوم يبدو الرجل من أبرز المتمسكين بهذا الاتفاق وأكثر الداعين إلى تطبيقه، بما يحفظ هذه الكيانية اللبنانية ويجنب لبنان المزيد من الحروب أو الاقتتال ويقطع الطريق على دعوات الانفصال.
منذ مصالحة الجبل، كان جنبلاط حريصاً على العلاقة المتجذرة مع الكنيسة المارونية، ومع الأفرقاء المسيحيين، وكان على تماه تام مع دعوات الفاتيكان المتكررة إلى حفاظ المسيحيين على وجودهم في أراضيهم ومجتمعاتهم والانسجام داخل دولهم. فهذه الدعوات كانت تشكل ركيزة أساسية لمواجهة أي مشاريع انفصالية أو تقسيمية. من هنا تأتي أهمية زيارته إلى رهبنة الكسليك، أولاً للإشارة إلى العلاقة الجيدة بينه وبين المسيحيين، وثانياً لخلق مسارات تفاهم تُعمم على الداخل، حول ضرورة التمسك بالطائف وعدم المغامرة بأي خيارات أخرى. والأهم هو تطبيق الطائف كاملاً بالنسبة إليه، بما يحفظ حقوق الجميع وأدوارهم، كما يحفظ المناصفة ويفتح المجال أمام دولة مدنية، بينما الطوائف يكون تمثيلها قائماً بتشكيل مجلس الشيوخ، ويتم بموجبه حصر السلاح بيد الدولة، التي تقوم على لامركزية إدارية موسعة، ما يراعي هواجس كل الطوائف والمكونات.
رمزية زيارة جنبلاط إلى رهبنة الكسليك، هي أنها الرهبانية الأقدم في لبنان، والأكبر لناحية عدد الرهبان. وأهميتها أن لديها ارتباطاً مباشرً بالبابا في الفاتيكان وليس عبر البطريركية المارونية. وهي الرهبانية التي ساهمت بتكوين النخبة المارونية التي دعت إلى تأسيس لبنان الكبير. أما في الحرب الأهلية اللبنانية فكان موقفها حيادياً، وركزت على توفير الخدمات للناس والمهجرين، وشددت على ضرورة تثبيت وجودهم في أراضيهم. تمتلك الأرشيف الماروني الخاص بتاريخ الموارنة في جبل لبنان منذ أيام السلطنة العثمانية. في وثائقها وتوصياتها تشدد رهبنة الكسليك على تطبيق الطائف كاملاً مع كل بنوده الإصلاحية من دون نسفه أو تجميده، ومع سد كل الثغرات فيه. ولطالما وصفت رهبنة الكسليك بأنها رهبة العهد. ومعروف حرص جنبلاط في هذه المرحلة على عهد الرئيس جوزاف عون، وحماية مرتكزات الدولة بمواجهة أي اهتزاز. كما أنها تمثل ذاكرة مهمة للموروث الماروني في الجبل، وهو ما يتمسك جنبلاط بالمحافظة عليه، انطلاقاً من قاعدة أن الحفاظ على وحدة الجبل يضمن الحفاظ على وحدة لبنان، وهذه معادلة قائمة منذ أيام "كميل وكمال".
يعلم وليد جنبلاط أن التحولات تعصف بلبنان، ونتائجها ستشمله. ما يهمه هو الكيان بمؤسساته والحفاظ عليه قدر الإمكان. من هنا يعود إلى طرح تطبيق الطائف، كما العودة إلى اتفاق الهدنة، بما يشكل ضمانة لكل القوى فيه. لكن نظرته تبلغ مدى أبعد مما هو قائم حالياً، فقبل سنوات وصل إلى قناعة أن ثمة تغييراً سياسياً سيشمل القوى أو الطبقة السياسية. فكان أول المبادرين إلى التراجع خطوات إلى الوراء وتسليم نجله تيمور وضخ دماء جديدة في الحزب الاشتراكي والطائفة الدرزية. يعلم جنبلاط أن التغيير سيطال الجميع، فمحاولات التأثير الإسرائيلية على الطائفة الدرزية لا تتوقف، وفي وقت يعتبر فيه أن هناك اتجاهاً نحو إرساء دولة الطائف الفعلية التي تؤسس لدولة مدنية، يجد نزعات درزية تقوم على الشعبوية وشد العصب الطائفي. وهو ما يعمل عليه دروز في أميركا، أو إسرائيل، ويؤثرون به على الدروز في سوريا ولبنان. يبدو ذلك وكأنه محاولة لخلق زعامات "دينية" يقودها رجال الدين، في فلسطين مع الشيخ موفق طريف، وفي سوريا مع الشيخ حكمت الهجري، وفي لبنان مع الشيخ أمين الصايغ. وهذا ما يواجهه جنبلاط، من خلال التمسك بالعودة إلى الطائف واعتباره ملاذاً آمناً للجميع ويحظى برعاية عر