<
18 November 2025
الأخبار: الحصار المالي يشتدّ: من الإطار العام إلى أدقّ التفاصيل

الأخبار: ماهر سلامة-

جاء تعميم مصرف لبنان الأخير بشأن إلزام الشركات المالية تعبئة استمارة «اعرف عميلك» لكل عملية نقدية تساوي أو تتجاوز الألف دولار أو ما يعادلها، من ضمن مسار طويل مما يسمّى «الامتثال» لمتطلبات هيئات الرقابة المالية الدولية بهدف مكافحة تبييض الأموال و«تمويل الإرهاب».

 

انخراط لبنان في هذا المسار بدأ في مطلع الألفية على شكل إطار عام تطوّر نحو أدّق التفاصيل الواردة في تعميم مصرف لبنان. ومن اللحظة الأولى لانطلاق هذا المسار كان لبنان أمام خيارين: «الامتثال»، أو الخروج من النظام المالي العالمي.

 

وُلد مفهوم «الامتثال المالي» كأداة لإنفاذ الهيمنة. لم يكن الأمر خياراً، بل شرطاً أساسياً للانخراط في التبادل الدولي. وقد جرى تأطير هذا المفهوم في منظمات عدّة مثل مجموعة العمل المالي (FATF)، ومجموعة «إغمونت» لوحدات الإخبار المالي، ومن بعدها في أنظمة تبادل المعلومات الضريبية في إطار OECD... وبنتيجة ذلك فُرض على الدول مجموعة من القواعد التي استخدمت كأداة سياسية في يد الدول/ الدولة المهيمنة على النظام المالي العالمي.

 

هذا التحوّل يشرحه نيكولاس مولدر في كتابه «السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة»، إذ يصف العقوبات التي تُهدد بها الأنظمة المالية غير الممتثلة «للقوانين الدولية» بأنها «وسيلة لإعادة تشكيل سلوك الدول عبر التحكم بوصولها إلى النظام المالي العالمي». هنا تحديداً أصبحت مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب جزءاً من «الترسانة الاقتصادية» الحديثة، بحسب تعبير مولدر، وأصبح الخروج عن قواعدها مشابهاً للخروج من الاقتصاد الدولي نفسه.

 

وفي هذا السياق، لم يكن لبنان خارج هذا المسار. فبُعيد التحذيرات الأولى من FATF في عام 2000، أقرّ مجلس النواب القانون 318 عام 2001. وكان هذا القانون أشبه بلحظة تأسيس لمنظومة كاملة جديدة. فللمرّة الأولى يُعرَّف تبييض الأموال كجريمة مستقلّة، وتُنشأ هيئة التحقيق الخاصة كوحدة إخبار مالي مستقلة ذات طابع قضائي داخل مصرف لبنان وهي مخوّلة تجميد الحسابات، ورفع السرية المصرفية، وتبادل المعلومات مع وحدات مماثلة في الخارج.

 

وبعد عام واحد فقط، شُطب اسم لبنان من لائحة الدول غير المتعاونة مع منظمة العمل المالي، وبعدها بسنتين انضم إلى مجموعة «إغمونت»، وهي منظمة دولية تعمل على تسهيل التعاون وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين وحدات الاستخبارات المالية الوطنية للتحقيق في غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومنعهما.

 

ثمة مرحلة مفصلية ثانية من عمر مسار الانخراط في النظام المالي العالمي برزت في عام 2015 حين أقرّ القانون 44 مع سلسلة قوانين مكمّلة له. ولاحقاً توسّع هذا الإطار ليشمل مكافحة الفساد، وتبادل المعلومات الضريبية، وتعديل تعريف تمويل الإرهاب، وصولاً إلى إعداد تقييمات جديدة لمخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

 

وثمة بند في هذا القانون أدّى إلى إعادة تعريف التعامل مع جرم تبييض الأموال، فلم يعد الأمر محصوراً بمحاسبة المرتكب المباشر فقط، بل بات يُنظر إليه ضمن منهجية «توقّعية» تقوم على تقييم «مكامن المخاطر الأكبر»، في أي قطاعات، وأي أنواع زبائن، وأي أدوات مالية تُستخدم أكثر في عمليات التبييض، ليُبنى على هذا التقييم عمليات الإشراف والملاحقة.

 

هذه المقاربة أصبحت تشمل تمويل الإرهاب، والقطاعات غير المصرفية، وتعريف «صاحب الحق الاقتصادي»، وواجبات الإبلاغ خارج النظام المصرفي التقليدي. هنا تحديداً انتقل لبنان من نموذج الطرف «المُمتَثل» فقط، إلى نموذج «المُشارك» في عمليات الكشف وتحديد مكامن تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وفقاً للتعابير الدولية. وبالتالي أصبح المحاسب والمحامي وشركة الوساطة العقارية وغيرهم، خاضعين للموجبات نفسها التي يخضع لها المصرف كمؤسّسة.

 

انتقل لبنان من نموذج الطرف «المُمتثل» إلى نموذج «المُشارك»


وفي عام 2015 أيضاً، أقرّ مجلس النواب، تحت الضغوط الأميركية، القانون 42 الذي فرض للمرّة الأولى التصريح الإلزامي على المعابر الحدودية عند نقل أكثر من 15 ألف دولار. فقد أصبح مجرد حمل مبلغ كبير من النقد يندرج تحت «مخاطر التبييض» ما لم تُقدَّم مستندات مبرّرة. بعد سنة، أقرّ مجلس النواب القانون 55 الذي أدخل لبنان رسمياً في نظام التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية (CRS).

 

بهذه القوانين الأربعة (318، 44، 42، و55) اكتمل الإطار التشريعي الذي سمح لهيئة التحقيق الخاصة بأن تكون، فعلياً، بوابة مراقبة إلزامية بين النظام المصرفي اللبناني والعالم.

 

في عام 2018 أُقرّ القانون 77 الذي وسّع تعريف تمويل الإرهاب، إذ لم يعد يشترط إثبات أن الأموال صُرفت في عمل إرهابي محدّد، ولا أن الجهة المستفيدة مصنّفة رسمياً كمنظمة إرهابية. إذ أصبح يكفي أن يقدّم شخص أو مؤسّسة ما، مساعدة مالية أو لوجستية أو حتى تغطية مصرفية، مقصودة أو عن غير قصد، تُسهّل أي أنشطة قد تُستخدم لاحقاً في عمل إرهابي، حتى يصبح خاضعاً للملاحقة.

 

بهذا القانون أصبح المعيار وجود خطر التمويل، وليس وقوع التمويل. هذا ما جعل المصارف مُلزمة بإغلاق حسابات وتجميد تحويلات بناءً على شبهات تتعلق بالطرف أو بالوجهة، حتى لو لم تكن هناك جريمة فعلية بعد.

 

تنفيذياً، كان مصرف لبنان الذراع التي استعملت من أجل فرض تطبيق هذه القوانين بواسطة التعاميم، وهي في الواقع النصوص التي تُطبَّق يومياً على الزبائن، والمعاملات، والموظفين. التعميم الأساسي 83، مع تعديلاته، يمثّل محطة أساسية.

 

فقد أصبح لزاماً على المصارف أن تفرض على العميل أن يملأ استمارة تُعرف بـKYC، أي «اعرف عميلك»: هويته، طبيعة عمله، مصدر أمواله، عنوانه، رقم هاتفه، والمستفيد الحقيقي من الحساب إن كان الحساب لشركة أو وسيط. كل عملية إيداع تفوق الـ15 ألف دولار، وكل تحويل خارجي، أصبح مشروطاً بمجموعة أسئلة ووثائق وتصنيفات. هذا التعميم، بتعديلاته اللاحقة، وضع الأساس الإجرائي لمنع التعامل مع أي حساب «غير معروف المصدر».

 

التعميم الأساسي الرقم 1 فرض موجبات مماثلة على هيئات الاستثمار الجماعي، فارضاً عليها حفظ ملفات كاملة عن أصحاب الحصص في الصناديق، وأنظمة إبلاغ عند الاشتباه. من ناحية أخرى، التعميم الأساسي الرقم 2 نقل هذه الموجبات إلى المؤسسات المالية غير المصرفية، مثل شركات القروض والتحويلات، مانعاً إتمام أي علاقة مالية مع طرف لا يستطيع تقديم ملف KYC كامل.

 

التعميم الأساسي الرقم 3 وسّع هذه الرقابة لتشمل «كونتوارات التسليف»، أي المؤسسات التي كانت تاريخياً أبواباً جانبية لحركة السيولة النقدية، وهي المكاتب وشركات الإقراض الخاصة غير المصرفية، فأصبح عليها تدقيق مصدر الدخل، تحليل القدرة على السداد، وإبلاغ الهيئة عند أي شبهة. وأخيراً في تعميمه الأخير توجّه مصرف لبنان إلى المؤسسات المالية وشركات التسليف والصرافة ومقدّمي خدمات التحويل النقدي والمحافظ الإلكترونية، فارضاً عليها إلزام زبائنها بتعبئة استمارة «اعرف عميلك» (KYC) لكل عملية نقدية تساوي أو تتجاوز الألف دولار أو ما يعادلها، سواء أكانت العملية إيداعاً أو سحباً أو تحويلاً داخلياً أو خارجياً.

 

بهذه الشبكة، لم يعد لبنان بلداً «يمنع تبييض الأموال» فقط، بل أصبح جزءاً من البنية الدولية التي تراقب يومياً طريقة عمل مصارفه، وشركات التحويل والقطاعات الأخرى، وتعطيه «شهادة حسن سلوك» وإذا لم يمتثل تضعه على اللائحة الرمادية. وبهذا المعنى، فإن المعيار الأشمل لتحديد مفهوم مكافحة الإرهاب وتصنيف العمليات التجارية، تطوّر ليصبح أقلّ تفصيل في هذه العمليات هو المعيار. هذا ما نواجهه اليوم في لبنان ويستخدم في إطار الهيمنة وكأداة للتطويع السياسي.

 

تاريخ من الاستهداف المباشر

منذ عام 1997 تحوّل حزب الله إلى هدف دائم لواشنطن عبر مسار طويل من العقوبات المباشرة، ثم المالية التي توسّعت تدريجياً لتصبح جزءاً من الحصار السياسي والمالي على لبنان. أتى هذا المسار موازياً لمسار انخراط لبنان بشكل رسمي في العمل على مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الذي كان يستهدف حزب الله بشكل غير مباشر.

 

بدأت العقوبات بتصنيف الحزب وقياداته على لوائح الإرهاب من دون وجود مسار مالي متكامل، واقتصرت الإجراءات على إدراج أسماء أفراد، وحظر تمويلها من جهات أميركية، وفُرضت قيود على السفر والتعامل الديبلوماسي. ومع صدور «قانون باتريوت» والأوامر التنفيذية اللاحقة بعد هجمات 11 أيلول 2001، تحوّلت مواجهة الولايات المتحدة مع المنظمات التي تُصنّفها إرهابية إلى مواجهة مالية. فمنذ 2004 بدأت لوائح OFAC تتّسع لتشمل شركات صرافة، مؤسّسات خيرية، ومكاتب تجارية مرتبطة بالحزب أو بالبيئة الداعمة له، خصوصاً في أفريقيا وأميركا الجنوبية.

 

وفي عام 2012، صدر أول قانون في الولايات المتحدة يلحظ حزب الله بشكل مباشر، وهو «قانون مكافحة إيران في نصف الكرة الغربي» والذي ينص على العمل على «ردع التهديدات ضد المصالح الأميركية من قبل إيران والحرس الثوري الإيراني وقوّة القدس وحزب الله».

 

وفي عام 2014 أقرّ الكونغرس «قانون منع التمويل الدولي لحزب الله»(HIFPA)، الذي كان يهدف إلى منع الشبكة اللوجستية لحزب الله من العمل من أجل الحد من أنشطته المحلية والدولية. في 2017 صدر التعديل الثاني للقانون (HIFPA II) موسِّعاً اللائحة لتشمل «الأشخاص الأجانب الذين يساعدون عن علم أو يقدمون الدعم لأنشطة جمع الأموال أو التوظيف لحزب الله»، إضافة إلى «وكالات الحكومات الأجنبية التي تزود حزب الله بالدعم المالي أو السلاح أو أي مساعدة أخرى».

 

تضمّنت الكثير من القوانين الأخرى حزب الله في بنودها، وكانت معظمها قوانين موجهة ضد إيران بشكل أساسي. لكن العقوبات لم تعد محصورة بقيادات الحزب، بل برجال الأعمال والمؤسسات المحيطة به، كما تظهر قوائم تعود إلى أعوام 2016 – 2019 أن عدداً من المشاريع التجارية في أفريقيا وأميركا اللاتينية صُنّفت «مصادر تمويل غير مباشرة»، ما يجسد انتقال واشنطن من استهداف «المنظمة المسلحة» إلى ملاحقة «المنظومة الاقتصادية المحيطة بها».

الأخبار