على مدى قرنين من الزمن، كانت أوروبا مهداً للنمو والابتكار، وقلباً نابضاً للتحولات الصناعية التي غيّرت وجه العالم؛ فمن مصانع بريطانيا في القرن التاسع عشر إلى مراكز الابتكار في ألمانيا وفرنسا وهولندا، ازدهرت القارة العجوز بفضل التقدم التكنولوجي، وارتفع مستوى المعيشة فيها إلى مستويات غير مسبوقة. ومع ذلك، فإن وهج الريادة الذي ميّز أوروبا بدأ يخفت تدريجياً أمام صعود قوى اقتصادية جديدة في الشرق والغرب.
لكن التحدي الذي تواجهه القارة اليوم ليس في النمو وحده، بل في قدرتها على البقاء موحّدة ومتماسكة في عالم تزداد فيه المنافسة ضراوة وعمقاً؛ فبينما تسعى الولايات المتحدة لترسيخ تفوقها التكنولوجي والصين لتعزيز نفوذها الصناعي، لا تزال أوروبا تتعثر بين البيروقراطية والاختلافات السياسية والاقتصادية بين دولها. ومع أن الاتحاد الأوروبي يملك قاعدة بشرية واقتصادية ضخمة، إلا أن تباين السياسات والولاءات الوطنية يحدّ من قدرته على التحرك كقوة موحدة.
في هذا السياق، تتعالى التساؤلات حول مدى قدرة أوروبا المجزأة على مواصلة الازدهار في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. فتقارير دولية تحذّر من تراجع الإنتاجية، وتنامي الأعباء الاجتماعية، وتزايد السخط الشعبي الذي يغذي صعود اليمين المتطرف، فيما تواجه كبرى اقتصادات القارة أزمات متشابكة بين ضعف النمو وارتفاع الديون وتراجع القدرة التنافسية. فهل تستطيع أوروبا الحفاظ على مكانتها في نظام عالمي يعاد تشكيله بسرعة؟
إشكالات
في هذا السياق، ذكر مقال لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أنه:
في القرنين التاسع عشر والعشرين، شهدت اقتصادات أوروبا الغربية نمواً هائلاً.
في العام 2022 بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في أوروبا الغربية 19 ضعفاً مما كان عليه قبل 200 عام.
ارتفع متوسط العمر المتوقع من 36 عامًا عام 1820 إلى 82 عاماً عام 2020.
امتدت الثورة من أوروبا إلى جميع أنحاء العالم. وأصبحت الولايات المتحدة الاقتصاد الرائد عالمياً منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي الآونة الأخيرة، ازداد ازدهار الصين بشكل كبير.. لقد تغير العالم، وأصبح أكثر ثراءً بكثير.
ويضيف: لقد أتاح التقدم التكنولوجي أيضاً آفاقاً لمنافسة عالمية شرسة. ولهذا آثارٌ جسيمة.. حتى وقت قريب، كان الاقتصاد الأميركي هو الاقتصاد الوحيد المتقدم تقنياً على المستوى القاري. حاول الاتحاد السوفيتي المنافسة لكنه فشل، إلا في المجال العسكري. أما اليوم، فالصين قوةٌ عظمى. وقد تصبح الهند كذلك. اليوم، إذن.
ويتساءل كاتب المقال: "أين أوروبا، منبع هذه الثورة؟"، مردفاً:
يبلغ عدد سكان الاتحاد الأوروبي 450 مليون نسمة، وهو عدد أقل بكثير من سكان الصين، ناهيك عن الهند، ولكنه أكبر بكثير من سكان الولايات المتحدة.
وفقاً لمؤشر القوة الشرائية (PPP)، فإن اقتصادها أصغر من اقتصاد الولايات المتحدة والصين، ولكنه لا يزال كبيراً جداً.
ولكن، كما ورد في تقرير دراغي ، وفي ورقة بحثية حديثة من تأليف لويس جاريكانو وبينجت هولمستروم ونيكولاس بيتي بعنوان " دستور الابتكار "، فإن الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو يتخلفان في الإنتاجية.
كما يجد الاتحاد صعوبة في حشد موارده الاقتصادية والديموغرافية، التي تفوق موارد روسيا بكثير، لضمان أمنه دون حماية المظلة الدفاعية الأميركية.
وربما يستطيع الاتحاد الأوروبي القيام بما يتوجب عليه فعله، حتى وإن كان تاريخه من التشرذم سيجعله دائماً أشبه بعصبة دول متناحرة أكثر منه دولة ذات سيادة. هذا، كما تُشير الورقة البحثية المذكورة هو وعد "السوق الموحدة": على التكتل فقط بذل المزيد من الجهد. ويمكن القول أيضاً إن هذا ينطبق على التحدي الأمني.
لكن كاتب المقال يعلق قائلاً: "هذا ليس مقنعاً تماماً؛ فالسيادة والهوية الوطنية والسياسة والضرائب تظل وطنية راسخة. ولهذا السبب كان استكمال السوق الموحدة صعبًا للغاية. وينطبق الأمر أكثر على الدفاع، حيث يجعل غياب التنسيق الانتفاع المجاني أمرًا لا مفر منه".
واقع مغاير
يقول الباحث المتخصص في العلاقات الدولية وتحليل السياسات العامة، أبو بكر الديب، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
أوروبا اليوم تواجه واقعاً مغايراً تماماً لما كانت عليه حين وُلد الاتحاد الأوروبي كحلم للتكامل بعد الحروب.
الآن هي تبدو قارة "مجزأة" اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، تتفاوت فيها مستويات النمو بين الشمال الصناعي المتقدم والجنوب والشرق المثقلين بالديون والأزمات.
هذا التفاوت يحدّ من قدرتها على تبني سياسات اقتصادية موحدة، فيما تشهد الساحة السياسية صعود الحركات القومية والمناهضة للمهاجرين، ما يعمّق الانقسام ويضعف اتخاذ المواقف المشتركة في الأزمات الكبرى، مثل الحرب في أوكرانيا أو قضايا الطاقة.
كما أن التباين الثقافي والاجتماعي والهوياتي بين دولها يجعل من بناء "هوية أوروبية موحدة" أمراً معقداً في ظل تحديات الهجرة والتغيرات الديموغرافية.
ورغم هذه التصدعات، تحتفظ أوروبا بعناصر قوة مهمة تدعم استمرارها كلاعب اقتصادي وسياسي مؤثر، أبرزها: التكامل الاقتصادي الجزئي الذي أفرز سوقاً أوروبية مشتركة تتيح حرية حركة السلع ورأس المال والعمل، مما يمنح دول الاتحاد مزايا تفاوضية قوية على الساحة العالمية. كما تمتلك القارة قاعدة ابتكار وتكنولوجيا متقدمة في مجالات الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية والذكاء الاصطناعي، تتركز في دول مثل ألمانيا وفرنسا والسويد. وإلى جانب ذلك، يوفّر الاستقرار المؤسسي والسياسي النسبي آليات تمنع الانهيار الداخلي، عبر شبكات أمان مالية وقضائية فعالة.
ويضيف: لكن أوروبا تظل رهينة لتشابكها مع القوى الكبرى. فاعتمادها على الطاقة الروسية كشف هشاشة أمنها الاستراتيجي، فيما تبقى علاقتها بالولايات المتحدة محوراً رئيسياً لأمنها القومي لكنها تحدّ من استقلال قرارها. أما الصين، فهي تمثل شريكاً اقتصادياً جذاباً واستراتيجياً مقلقاً في آنٍ واحد.
وفي ضوء هذه المعادلة، يتراوح مستقبل أوروبا بين ثلاثة مسارات: استمرار النمو المحدود في ظل تفاوت داخلي، أو تراجع بفعل الانقسامات القومية والاجتماعية، أو انطلاقة جديدة إذا استطاعت إعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي وبناء استراتيجية أكثر استقلالية وتكاملاً.
مسارات محتملة
وتحت عنوان "أوروبا تتجه نحو الخراب المالي"، يشير نشرته بلومبيرغ إلى:
تزايد شعور السخط بين الناخبين في أوروبا، واستغلال الأحزاب اليمينية المتطرفة لذلك بتحميل المهاجرين مسؤولية الأزمة الاقتصادية.
الولايات المتحدة تواجه ضغوطاً مشابهة لكنها محصّنة نسبياً بفضل مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية واقتصادها القوي وشركاتها التكنولوجية العملاقة.
أوروبا تفتقر إلى منافسين حقيقيين للشركات الأميركية الكبرى في التكنولوجيا، رغم أن حجم اقتصادها الإجمالي مماثل.
ويستعرض في هذا السياق بعض الإشكالات التي تواجه دول القارة، ففي أكبر اقتصاد في أوروبا، أقر المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأن نظام الرفاه الاجتماعي في بلاده أصبح غير مستدام، مؤكداً أن "قرارات مؤلمة" و"خفضاً في الإنفاق" باتت ضرورية.
فرنسا، صاحبة أعلى إنفاق اجتماعي في أوروبا، شهدت احتجاجات واسعة ضد رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، ما دفع رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو لاقتراح تأجيل تطبيق القرار إلى ما بعد انتخابات 2027.
حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد قطاع السيارات الألماني يواجه أزمة حادة بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والعمل، نتيجة قرارات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل بالتخلي عن الطاقة النووية والاعتماد على النفط والغاز الروسي.
كذلك بريطانيا تعاني من "اكتئاب شعبي" بسبب ارتفاع الضرائب وتراجع الإنتاجية، إذ إن نحو 9.4 ملايين شخص خارج سوق العمل إضافة إلى 1.6 مليون عاطل.. ويضيف الكاتب: الحكومات البريطانية المتعاقبة فشلت في معالجة بطالة الشباب واعتمادهم على الإعانات، وحزب العمال يعارض أي خفض في برامج الرعاية.
لكن الكاتب يشير إلى إيطاليا بقيادة جورجيا ميلوني، بوصفها تمثل استثناءً نسبياً، إذ حققت استقراراً سياسياً وتراجعاً في العجز وارتفاعاً في الإيرادات، ما حسّن صورتها الاقتصادية.
تحديات
من جانبه، يقول خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنّ دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا، تواجه تحديات اقتصادية كبيرة تجعل من الصعب استعادة مستويات الازدهار التي كانت تعيشها قبل جائحة كورونا.
ويوضح أن الأزمة الصحية العالمية وما تبعها من إغلاقات واسعة وإنفاق ضخم لمواجهة تداعيات الجائحة، أضعفت اقتصادات الدول الأوروبية، لتأتي الحرب في أوكرانيا وتفاقم الوضع عبر استنزاف الموارد المالية وتحمّل أعباء إضافية نتيجة دعم كييف عسكريًا وماليًا، ما أدى إلى زيادة الديون العامة والعجز في الموازنات.
ويشير إلى أن هذه الأوضاع انعكست داخليًا على الاستقرار السياسي في عدة دول أوروبية، أبرزها فرنسا التي شهدت تغييرات متكررة في الحكومات خلال السنوات الأخيرة، وسط خلافات حادة حول سياسات التقشف والميزانية العامة.
ويضيف: بلجيكا تواجه وضعًا مشابهًا، حيث لم يتم حتى الآن التوصل إلى اتفاق حول ميزانية الدولة للعامي 2025-2026، في ظل عجز يقارب 10 مليارات يورو تحاول الحكومة تغطيته عبر خفض الإنفاق وتقليص المخصصات الاجتماعية، ما يؤثر سلبًا على رفاهية المواطنين وحركة الاقتصاد.
ويختتم حديثه بالتأكيد على أن تراجع الإنفاق العام وتقليص البرامج الاجتماعية يؤديان إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، مشيرًا إلى أنه من غير المرجح أن تتمكن الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا، من العودة إلى مستويات الازدهار الاقتصادي التي عرفتها قبل الأزمات المتلاحقة.