يُنظر إلى الذهب تاريخياً كحصن منيع ضد التضخم، إذ يسارع المستثمرون لحيازة السبائك عندما تبدأ القوة الشرائية للنقود في التآكل. ومع ذلك، تُقدم الصين اليوم مشهداً اقتصادياً يقلب هذه المعادلة التقليدية رأساً على عقب.
ففي الوقت الذي يُعاني فيه ثاني أكبر اقتصاد في العالم من ضغوط انكماشية عميقة ومتجذرة، يشهد سوق الذهب المحلي ارتفاعات قياسية، بل إن هذا الارتفاع بات هو القوة الدافعة الوحيدة تقريباً وراء أي تحسن يُلاحظ في بيانات أسعار المستهلك.
هذا البريق المعدني، الذي يساهم بشكل غير مألوف في إيقاف مؤقت للتراجع الحاد في الأسعار، يُثير تساؤلات جوهرية حول حقيقة التعافي الاقتصادي. فهل يُعد هذا الارتفاع في أسعار الذهب مجرد ترياق مؤقت يُشتَرى به الوقت للاقتصاد المنهك؟ وهل يُخفي بريق المعدن النفيس بالفعل مشكلة الانكماش الهيكلي والأعمق داخل الصين، أم أنه يُشير إلى تحوّط غير تقليدي لمواجهة حالة عدم اليقين المتزايدة؟
وبحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، يُنظر إلى الارتفاع القياسي في أسعار الذهب داخل السوق الصينية كظاهرة استثنائية تُوفّر متنفساً مؤقتاً لثاني أكبر اقتصاد عالمياً في مواجهة ضغوط الانكماش المستمرة. ويُسهم في إخفاء التراجع الحاد في الأسعار.
دور الذهب في بيانات التضخم
وأوضح التقرير أن التضخم الأساسي شهد في أكتوبر الماضي أسرع ارتفاع له منذ عامين تقريباً، مما ساعد مؤشر أسعار المستهلك الأوسع (CPI) على إنهاء فترة ثلاثة أشهر كان فيها عند الصفر أو دونه. وتُشير تقديرات كل من "غولدمان ساكس غروب إنك" و"شينوان هونغ يوان غروب كو" إلى أن المعدن النفيس ساهم بنحو النصف أو أكثر من القفزة البالغة 1.2بالمئة في المؤشر الأساسي، الذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة.
هذا الارتفاع الملحوظ في مؤشر الأسعار يتأتى جزئياً من كون الذهب والبلاتين يندرجان تحت فئة "السلع والخدمات المتنوعة" ضمن سلة مؤشر أسعار المستهلك. وقد أفاد المكتب الوطني للإحصاء عن زيادة بنحو 50 بالمئة في أسعار المجوهرات من هذين النوعين في أكتوبر، ما دفع الفئة ككل للارتفاع بنسبة قياسية بلغت 12.8بالمئة على أساس سنوي. وتُشير سيتي غروب إنك إلى أن وزن هذه الفئة في السلة لا يتجاوز 1بالمئة، لكن تأثيرها كان مضاعفاً.
الانكماش أعمق من البيانات الرسمية
على الرغم من الدفعة التي قدمها الذهب، يرى اقتصاديون أن الصورة الوردية للتضخم تُعدّ على الأرجح ومضة عابرة. وقد صرح زيتشون هوانغ، الخبير الاقتصادي الصيني لدى كابيتال إيكونوميكس، بأن مكاسب مؤشر أسعار المستهلك "تعكس بشكل كبير عوامل مؤقتة، أبرزها ارتفاع أسعار الذهب، ولا تشير إلى أن مشكلة الانكماش في الصين تتلاشى". وتُؤكد التحليلات أن اختلالات العرض والطلب ستستمر في توليد ضغوط انكماشية.
ويستنتج التقرير أن الانكماش، الذي يُعد انعكاساً لضعف الطلب، قد أدى بالفعل إلى تدهور ربحية الشركات وانخفاض الأجور. كما كشف تحليل لوكالة "بلومبرغ نيوز" شمل حوالي 70 منتجاً وخدمة يومية أن انخفاض الأسعار الفعلي كان أكثر حدة مما تُظهره الأرقام الرسمية لمؤشر أسعار المستهلك. ويُضاف إلى ذلك أن تخفيف انكماش أسعار المنتجين كان مدفوعاً بشكل رئيسي بـ قاعدة مقارنة منخفضة في العام الماضي، وليس بتحسن مستدام، وفقاً لـ "غولدمان ساكس".
جمود السياسات ومستقبل الأسعار
ونوه التقرير بأن الضغوط الهبوطية الناتجة عن ضعف الإنفاق المحلي تُحبط جهود الحكومة للحد من حروب الأسعار والقدرة الإنتاجية الفائضة، في اقتصاد يشهد 10 أرباع متتالية من الانكماش. وتُشير التوقعات إلى أن بكين تفتقر إلى أدوات فعالة لتحفيز إنفاق المستهلكين، بسبب نظامها الضريبي الذي يوجه الدعم نحو الاستثمار والإنتاج.
ويُحذر اقتصاديون من أن ضعف الأسعار سيستمر دون استجابة سياسية أكثر جرأة. وفي هذا السياق، يُشير تشانغ تشي وي، كبير الاقتصاديين في بينبوينت لإدارة الأصول، إلى أنه "من السابق لأوانه استنتاج أن الانكماش قد انتهى"، لافتاً إلى استمرار الاتجاه الهبوطي لأسعار العقارات، وضعف الطلب المحلي، وتلاشي زخم الصادرات.
ويُؤكد تحليل بلومبرغ إيكونوميكس على أن "الضغوط الانكماشية تظل متجذرة"، وأن النمو الأضعف المتوقع في الربع الأخير لن يُغيّر هذا الاتجاه، مما يُبقي الحاجة قائمة لخطوات أكبر لتحفيز الاستهلاك والنمو.
الإقبال غير المسبوق على الذهب عرضٌ للمرض الاقتصادي وليس علاجاً له
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور عماد الدين المصبح أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي: "بالفعل المشهد في الصين يكسر القاعدة التقليدية التي تربط الذهب بالتحوط من التضخم، ويقدم رؤية أعمق لما يحدث في ثاني أكبر اقتصاد في العالم. الإقبال الصيني غير المسبوق على الذهب ليس مؤشراً على التعافي، بل هو في الحقيقة عرضٌ للمرض الاقتصادي وليس علاجاً له. إنه بمثابة (مؤشر للخوف) يعكس حجم اليأس والبحث عن الأمان".
ويفسر الدكتور المصبح هذا المشهد من خلال ثلاثة دوافع رئيسية هي:
المستثمرون والأسر الصينية يفقدون الثقة في الأدوات الاستثمارية التقليدية. فسوق الأسهم متقلب، وقطاع العقارات، الذي كان لعقود مخزن الثروة الرئيسي، يعاني من أزمة هيكلية طاحنة. في ظل غياب البدائل الآمنة، أصبح الذهب هو الملاذ الأخير لحماية المدخرات من تآكل القيمة الناجم عن ضعف الأصول الأخرى وليس عن تضخم الأسعار.
هناك مخاوف متزايدة بشأن استقرار اليوان على المدى الطويل، مما يدفع الكثيرين لتحويل مدخراتهم إلى أصل عالمي صلب لا يخضع لسيطرة أي حكومة بمفردها.
بنك الشعب الصيني نفسه هو أحد أكبر المشترين للذهب في العالم. تأتي هذه الخطوة في إطار استراتيجية أوسع لتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي وتنويع الاحتياطيات الأجنبية، مما يعزز الطلب المحلي ويشير إلى تحوط استراتيجي على المستوى الوطني.
وأكد المصبح أن بريق الذهب يخفي مشكلة أعمق، فهذا الارتفاع ليس "ترياقاً" للاقتصاد، بل هو "قناع لامع" يخفي تحته انكماشاً هيكلياً، وضعفاً في الطلب المحلي، وأزمة ثقة مستفحلة. إنه ليس دليلاً على الانتعاش، بل هو مقياس دقيق لحجم القلق والبحث اليائس عن الأمان في بيئة اقتصادية محفوفة بالمخاطر.
ماذا يعني ذلك؟
يطرح الخبير الاقتصادي المصبح التساؤل ويجيب عليه بنفسه قائلاً: "يعني أننا يجب ألا ننخدع ببريق الذهب الذي يلمع في سماء الاقتصاد الصيني القاتمة. هذا البريق ليس دليلاً على التعافي، بل هو أشبه بضوء إنارة الطوارئ الذي يشتعل في مبنى تهتز أساساته".
وأضاف: "فالانكماش ليس مجرد انخفاض مؤقت في الأسعار، بل هو حالة مرضية مزمنة. في الصين، جذوره عميقة وتعود إلى سنوات من الاعتماد على نموذج نمو غير مستدام قائم على الاستثمار العقاري والصناعات الثقيلة. اليوم، مع انفجار فقاعة العقارات، تجد المصانع نفسها تنتج سلعاً لا يجد من يشتريها بالداخل، مما يضطرها لخفض الأسعار بشكل مستمر للبقاء. هذا هو الانكماش الهيكلي: فائض في العرض يقابله ضعف مزمن في الطلب. الذهب لا يحل هذه المشكلة، بل يمثل هروباً فردياً منها".
واستطرد بأن "الأسر الصينية، التي استثمرت ما يصل إلى 70 بالمئة من ثرواتها في العقارات، تشاهد مدخراتها تتآكل. الشباب يواجهون صعوبات في إيجاد وظائف لائقة. وسوق الأسهم المحلية فشل في أن يكون بديلاً آمناً. عندما يفقد المواطن الثقة في الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني (العقارات، الأسهم، فرص العمل)، فإنه يتوقف عن الاستهلاك والاستثمار، ويبدأ في تخزين السيولة. وحينما يرى أن العملة نفسها قد تكون مهددة، فإنه يحول هذه السيولة إلى الملاذ الأكثر أماناً عبر التاريخ: الذهب".
ارتفاع الإقبال على الذهب أداة تحوّط مؤقتة
بدوره، قال الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "الانكماش الذي تشهده الصين ليس مفاجئاً، فهو نتيجة تراكمية لمجموعة من العوامل التي امتدت على مدى السنوات الأخيرة، بدءاً من تداعيات الجائحة، مروراً بالحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وصولاً إلى الأزمة العميقة في القطاع العقاري. هذه التحديات تركت أثراً مباشراً على معدلات النمو وأضعفت قطاعات الصناعة والإنتاج، لتنعكس في النهاية على الطلب المحلي وتغذّي حالة الانكماش الهيكلي الراهنة".
وأوضح الدكتور بدرة أن الصين تحاول اليوم امتصاص هذه الصدمات عبر سياسات مالية ونقدية حذرة، لكنها تواجه في المقابل تباطؤاً في حركة الصادرات وتراجعاً في الاستهلاك المحلي، الأمر الذي يحدّ من فاعلية تلك السياسات.
وأضاف: "وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى ارتفاع الإقبال على الذهب داخل السوق الصينية كأداة تحوّط مؤقتة أكثر من كونه مؤشراً على تعافٍ اقتصادي. فالميل إلى تكديس الذهب يعكس في جوهره تراجع الثقة في الأصول التقليدية والعملة المحلية، وليس بوادر انتعاش اقتصادي حقيقي".