<
11 November 2025
القروض المصرفية انكمشت من 59 مليار دولار إلى 553 مليوناً

ماهر سلامة-

لم تخرج المصارف اللبنانية بعد من حالة الإفلاس. ورغم كل الحديث الرسمي عن «استعادة الثقة» و«عوامل الاستقرار»، ما يزال الائتمان المصرفي في أدنى مستوياته. وهو أحد الشواهد الأساسية على حالة الموت السريري التي يعيشها القطاع المصرفي في لبنان.

فبحسب أرقام صادرة عن مصرف لبنان بشأن ما يسمّى «قروض فريش»، وهي حالياً المصدر الائتماني الوحيد عملياً في لبنان، فإنها انخفضت من 59.3 مليار دولار في نهاية 2018 إلى 553 مليون دولار في حزيران 2025، أي إنها كانت تساوي أكثر من 108% من الناتج المحلي الإجمالي وصارت لا تتعدّى 1.8% من الاقتصاد.

يقول مصرف لبنان إن القروض الفريش التي منحتها المصارف في لبنان للزبائن ارتفعت من 282 مليون دولار في تشرين الأول 2023 إلى 358 مليوناً في الشهر التالي، قبل أن تبلغ 553 مليون دولار في حزيران 2025. رقم، رغم تحسّنه الظاهري، لا يعادل شيئاً أمام اقتصاد كان يعتمد قبل الأزمة على تمويل بالائتمان تخطّى 59 مليار دولار. اليوم، بات الإقراض الفعلي يقتصر على قروض صغيرة بالدولار، يمنحها المصرف فقط لمن يملك راتباً «فريش» في حسابه ولمن يوافق على أن يوقع تعهداً بتسديدها «فريش».

أي إنّ من يحتاج فعلاً إلى الائتمان ليس مستهدَفاً، فيما من لا يحتاجه هو القادر الوحيد على الحصول عليه. المصارف، ببساطة، تحاول إظهار نفسها على شكل قطاع فعّال يقوم بدوره الطبيعي في الاقتصاد، في حين أن ممارسة هذا الدور لا تؤمّن سيولة تُذكر في الاقتصاد.

عندما كان حجم الإقراض المصرفي يبلغ 59 مليار دولار، كان يمثّل هذا الأمر 108% من الاقتصاد، وهو ما يظهر السيولة الزهيدة التي تقوم المصارف بضخّها في الاقتصاد اللبناني اليوم.

يُعدّ الإقراض أداة أساسية في الاقتصاد، إذ يتيح للشركات والأفراد الحصول على التمويل اللازم لتنفيذ مشاريع واستثمارات قد لا تتوافر لها السيولة الكافية فوراً.

فمن خلال الاقتراض، يمكن للشركات توسيع نشاطها ورفع إنتاجيتها، ويتيح للأفراد تمويل احتياجاتهم مثل السكن أو التعليم. إلا أنّ أهمية الإقراض لا تكتمل من دون وجود إدارة رشيدة للسياسة الائتمانية، إذ يتم توجيه الأموال نحو مشاريع إنتاجية قادرة على توليد عوائد مستقبلية تساعد في سداد الالتزامات، وتجنّب الاقتصاد الدخول في أزمات مديونية تثقل كاهله وتحدّ من قدرته على النمو.

ما يحصل اليوم باختصار هو عودة القطاع المصرفي للعمل في السياسات الإقراضية السابقة للأزمة التي كانت تعتمد على تغذية الاستهلاك، علماً بأن هذه السياسة، في بلد يعتمد على الاستيراد بمعظم استهلاكه، تُمثّل مصدراً لهدر العملات الأجنبية، لأنها تستخدم السيولة الموجودة في المصارف لتمويل حركة اقتصادية لا تُسهم في النمو الإنتاجي.

في حين أن الإقراض لا يلحظ تمويل الحركة الإنتاجية، من استثمارات لإنشاء مصالح ومؤسسات جديدة، أو استثمارات لتوسيع وتحسين ما هو موجود أصلاً، كما كان الحال قبل الأزمة.

بحسب أرقام مصرف لبنان، بلغت حصّة الزراعة والصناعة من الإقراض المصرفي للقطاع الخاص في 2019 في لبنان نحو 12% فقط. وفيما وصلت محفظة قروض القطاع الخاص إلى ذروتها مسجلة 66 مليار دولار، لم يوظف منها في القطاع الزراعي سوى 823 مليون دولار و7 مليارات دولار في القطاع الصناعي. أما اليوم، فلا نرى من الإقراض المصرفي، الزهيد أصلاً، إلا الاستهلاكي منه، الذي يستهدف شراء الهواتف الذكية أو الكومبيوترات المحمولة، والسيارات.

في المقابل، يُشير مصرف لبنان إلى أن الودائع الفريش بلغت 4.36 مليارات دولار عند نهاية حزيران 2025. لكن نصفها تقريباً غير قابل للسحب بحرية لأنه مرتبط بآليات تعاميم 158 و166.

وإذا استُبعدت هذه الحسابات «المقيّدة»، يتبيّن أنّ السيولة الفعلية المتاحة لا تتجاوز 2.16 مليار دولار. الجدير بالذكر، أن الودائع الفريش هذه، لا علاقة لها بتاتاً بالقروض الفريش، لأن مصرف لبنان يُجبر المصارف أن تحتفظ بنسبة 100% من قيمتها سيولة فعلية في المصارف المراسلة في الخارج، أي أن تكون الودائع الفريش مغطّاة بالكامل ويمكن استعمالها عند الطلب، وذلك بحسب التعميم 150.

لذلك، إن أموال القروض الفريش تأتي من سيولة المصارف الخاصة بها. وهذا مؤشّر مهم على أن الثقة بالقطاع المصرفي لم تعد، أولاً من قبل مصرف لبنان الذي يجبر المصارف على تغطية ودائعها الفريش بنسبة 100%، أي إنها ممنوعة من استخدام هذه الودائع في أي عمل ائتماني، وثانياً أن مصرف لبنان يعلم أن هذه الثقة مفقودة مع المودعين وهو ما أجبره على إصدار التعميم 150 ليُطمئن المودعين أن أموالهم في أمان.

بكلام أوضح، لا «عودة للثقة» ما لم تُحَلّ جذور المشكلة. الخسائر الضخمة في الميزانيات المصرفية، ومن ضمنها الودائع المجمدة، والدولارات التي تبخّرت في فجوة الدَّين العام (الذي يضمّ دين مصرف لبنان). ومن دون إعادة هيكلة حقيقية للقطاع المصرفي، ستبقى «القروض الفريش» مجرّد أرقام صغيرة تُستخدم في تقارير مصرف لبنان لمحاولة إظهار أن القطاع المصرفي لا يزال يعمل، فيما الاقتصاد الحقيقي يتراجع نحو اقتصاد الكاش والاستهلاك العشوائي، بلا أي أفق للإنتاج.