<
09 November 2025
الراعي ليسأل المسؤول نفسه: هل أنا أمين على الأمانة التي أُعطيت لي؟ هل أبني الوطن أم أزيد انقسامه؟

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطرانان الياس نصار وانطوان عوكر، امين سر البطريركية الأب فادي تابت، أمين سر البطريرك الأب كميليو مخايل، رئيس مكتب راعوية الشبيبة في البطريركية المارونية الأب جورج يرق، ومشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات، في ،حضور سفير اوكرانيا في لبنان  رومان غورياينوف مع وفد اوكراني، قنصل جمهورية موريتانيا إيلي نصار  وحشد من الفعاليات والمؤمنين. 

بعد الإنجيل المقدس القى البطريرك الراعي عظة بعنوان: " "كان عيد التجديد في أورشليم   قال فيها: "تحتفل الكنيسة اليوم بأحد تجديد البيعة، أي تجديد العبادة في الكنيسة. ويعود تاريخه إلى الأجيال الأولى من تاريخ الكنيسة. ويقابل عيد الاحتفال بذكرى تجديد العبادة في هيكل أورشليم، بعد أن دنّسه الامبرطور المضطهِد أنطيوكيوس إبيفانيوس مدة ثلاث سنوات ونصف (1 مك 4: 36–59). كذلك الكنيسة تتطهّر دومًا وتتجدّد بالمسيح هيكلها الجديد. إنه زمن نقف فيه أمام يسوع، كما وقف اليهود في الهيكل، ولكن لا لنجادله، بل لنعلن له من جديد إيمان بطرس والكنيسة: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (متى 16:16). يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، وأوجّه تحيّة خاصة إلى وفد أوكرانيا وعلى رأسه سعادة السفير وعقيلته الحاضرين معنا اليوم، ونصلّي معًا من أجل السلام في أوكرانيا، أرضٍ عانت الحرب والدمار، وتهجير الأبرياء، وسقوط الضحايا، لكي يُشرق عليهم فجر الرجاء من جديد، ويُرفع عنهم سلاح الظلم، وليُبدّد الربّ ظلمة الكراهية بنوره، والعداوة بالمصالحة. أوكرانيا التي تدفع اليوم ثمن الحرب، تُذكّرنا بواجب الكنيسة الدائم في الدعوة إلى السلام والعدالة، وتذكّر كلّ الشعوب أن لا مستقبل لأيّ أمة تُبنى على الكراهية والعنف، وأنّ كل انتصارٍ لا يصونه الحقّ، سرعان ما يتحوّل إلى هزيمةٍ في الضمير".

وتابع: "أوجّه أيضًا تحيّة خاصّة لعائلة المرحوم عواد أبي عاد، الذي ودّعناه منذ ثلاثة أيّام مع زوجته وأبنائه وابنته وعائلاتهم. نذكره في هذه الذبيحة الإلهيّة، مصلّين لراحة نفسه وعزاء أسرته. بالعودة إلى إنجيل هذا اليوم، يسأل اليهود يسوع بلهجة التحدّي: «إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهارًا.» فأجابهم يسوع بكلمة عميقة: «قد قلت لكم ولا تؤمنون، الأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي

بهذه العبارة يضعنا الإنجيل أمام جوهر الإيمان: الإيمان ليس تكرارًا لأقوال، بل استجابة لأعمال الله في حياتنا. المسيح لا يطلب من الإنسان أن يؤمن به لمجرّد كلماته، بل أن يرى أعمال الحبّ والرحمة والحقّ التي يقوم بها، فيؤمن من خلالها.

ثم يقول: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها وهي تتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد.» هنا يتجلّى المعنى الليتورجي العميق: إن أحد تجديد البيعة هو مناسبة نعيد فيها الإصغاء إلى صوت الراعي الصالح، الذي يعرف كل واحد منّا باسمه، ويقودنا لا بقوة السلطان بل بلُطف المحبة. هو يدعونا لا إلى إيمانٍ فكريٍّ جامد، بل إلى علاقة حيّة وثقة عميقة. تجديد البيعة هو إذًا تجديد الإيمان والعهد والمسؤولية. هو انتقال من الكلام إلى العمل، ومن الطقوس إلى الالتزام، ومن الشكل إلى الجوهر.كما كان في الهيكل آنذاك جدالٌ بين يسوع واليهود حول الهوية والإيمان، كذلك يعيش لبنان اليوم جدالًا عميقًا حول هويته وقيمه واتجاهه ومصيره. فيما تتنازع المصالح، وتُغلق الأبواب أمام الحوار، يقف المسيح في قلب وطننا، كما وقف في رواق الهيكل، ينادي الضمائر لتسمع صوته وتتبعه.لبنان اليوم بأمسّ الحاجة إلى من يسمع صوت الحقّ والحقيقة، وإلى من يضع المصلحة العامة فوق مصالحه الخاصة. إنّ ما يعانيه شعبنا من أزمة اقتصادية خانقة، ومن تفكّكٍ في المؤسسات، ومن فوضى في المسؤوليات، ليست قدرًا بل هو نتيجة خيارات بشريّة غابت عنها الأمانة الوطنيّة".

 

واضاف: "في هذا الإطار، يذكّرنا إنجيل اليوم بعبارة يسوع: "الأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي"فمن يحبّ لبنان حقًا، تشهد له أعماله. ومن يؤمن بالديمقراطية، لا يكتفي بالكلام عنها، بل يفتح الأبواب أمام كل لبناني للمشاركة الكاملة. ومن يدّعي خدمة الشعب، لا يقصي عنها كل اللبنانيين أو بعضهم عن المشاركة الكاملة فيها. لا خلاص للوطن بالخطابات، بل بأعمال الإيمان والمواطنة الصادقة. وكل مسؤولٍ عندنا مدعوّ لأن يسأل نفسه: هل تشهد أعمالي لي أمام الله وأمام الناس؟ هل أنا أمين على الأمانة التي أُعطيت لي؟ هل أبني الوطن أم أزيد انقسامه؟ إنّ أحد تجديد البيعة هو أيضًا أحد تجديد الضمير الوطني، هو دعوة لكل مسؤول، ولكل مواطن، إلى تجديد انتمائه للبنان، إلى تجديد التزامه بالحقّ، إلى إعادة بناء ثقته بنفسه وبوطنه. وما من طريقٍ لبناء الدولة إلا طريق الصدق والعدالة. فمن يضع الإيمان موضع المصلحة، يبني وطنًا ثابتًا، ومن يستعمل الدين أو السياسة لأغراضه الخاصة، يهدم الهيكل الذي يعيش فيهتجديد البيعة هو تنقية قلب الإنسان ليكون سكنى الله، وتنقية الضمائر من أجل سماع الحقيقة من كلام الله. ما يعاني منه الشعب عندنا هو ضياع الحقيقة أو تشويهها أو تحريفها أو إخفاؤها، الأمر الذي يضيّع الرأي العام. فلا بدّ من تنقية الضمائر لكي يسمع الإنسان والجماعة صوت الله، صوت الحقيقة. إنّ ما شاع في هذه الأيام عن بيع شهادات مزوّرة في الجامعة اللبنانية، هو في الحقيقة، كما أوضح لنا رئيسها، أنّ في أحد الفروع تم دفع مبالغ مالية لموظفين للتلاعب بالامتحانات عبر استبدالها وتزوير خط الأساتذة ووضع علامات نجاح غير مستحقّة، فتدخّل رئيس الجامعة وأعفى بعضًا وفصل بعضًا من الإداريين والموظفين. إن الجامعة اللبنانية التي تضم ستين ألف طالبًا ترتقي بمستواها التعليمي وفق مؤشرات التصنيف العالمية. وشهاداتها تمكّن أصحابها من احتلال مواقع قيادية في الداخل والخارج".

وختم الراعي: "فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، إلى الله، لكي يجدّد فينا الإيمان، ويحفظ وطننا وشعبنا من النزاعات والانقسامات، له المجد إلى الأبد، آمين".