<
03 November 2025
المغالطات الصارخة في إطلالات جعجع! (جان بو شعيا)

في إطلالاته الأخيرة، قدّم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع نفسه كما أراد أن يراه جمهوره الانتخابي، لا كما يفترض أن يتصرّف رجل دولة في لحظة مصيرية تمرّ بها البلاد. فالكلام الذي يطلقه جعجع، والذي غلبًا ما يحمل طابعًا هجوميًا واستعلائيًا في آن، لم يكن سوى تجميعٍ لمغالطات متكرّرة وشعارات انتخابية مستهلكة، تُعيدنا إلى مربّع المزايدات بدل أن تفتح نافذةً على رؤية وطنية متكاملة.

من الواضح أنّ جعجع أراد من إطلالته أن يشعل السجال لا أن يقدّم حلولًا. فبدل أن يتحدّث بلغة المسؤول، انزلق إلى خطاب تعبوي يستهدف خصومه السياسيين، متجاهلًا واقع الانهيار الذي يتطلّب خطابًا توحيديًا، لا تقسيميًا. بدا كمن يفتّش عن عدوٍّ جديد لشدّ العصب الانتخابي، ولو على حساب المؤسّسات التي يدّعي الدفاع عنها.
ولم تخلُ مداخلاته من مغالطات صارخة، سواء في مقاربته للملف الرئاسي أو في قراءته للعلاقة بين القوى السياسية. فقد بدت أرقامه وتوصيفاته أقرب إلى البروباغندا منها إلى التحليل الواقعي، فيما استعمل لغة الإقصاء بدل النقاش البنّاء. ومن أبرز تلك المغالطات أيضًا، طرحه لفكرة تمثيل اللبنانيين في الاغتراب عبر نوابٍ خاصّين بهم، وكأنّ ذلك قاعدة معمول بها عالميًا، في حين أنّ هذا النموذج لا يُعتمد سوى في عددٍ محدود من الدول كفرنسا وإيطاليا والبرتغال والجزائر، أي استثناءات لا قاعدة، وغالبًا ما يرتبط بظروف تاريخية وإدارية خاصة لا تنطبق على الحالة اللبنانية. إنّ الترويج لمثل هذا الطرح من دون توضيح خلفياته وسياقه يعكس قراءةً مبتسرة لمفهوم المواطنة، ويكرّس منطق الفصل بين اللبنانيين بدل توحيدهم في إطار وطني جامع. والأخطر أنّه لم يتردّد في تصوير المؤسّسات الدستورية وكأنّها عائق أمام "مشروعه"، في تلميحٍ يوحي باستعداده لتجاوزها إن تعارضت مع مصالحه الحزبية.
وما زاد المشهد سوءًا، هو هجوم جعجع المباشر على رئاسة الجمهورية والحكومة، بأسلوب لا يخلو من التهكّم والتهديد، ملمّحًا إلى إمكانية انسحاب وزرائه من الحكومة، وكأنّ المشاركة فيها مجرّد ورقة ضغط لا مسؤولية وطنية. هذا الأسلوب الذي ألمح إليه جبران باسيل منذ أكثر من عام، يعيد إلى الأذهان عادة جعجع القديمة في الانسحاب من السلطة عند أوّل منعطف، بعد أن يكون قد استغلّها لتحقيق مكاسب حزبية وانتخابية. وكأنّ السلطة بالنسبة إليه ليست وسيلة لبناء الدولة، بل منصّة لفرض شروطه ثمّ الانسحاب منها حين لا تلائمه الظروف.
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة أداء جعجع إلا من زاوية انتخابية بحتة. فالرجل لا يخاطب اللبنانيين، بل جمهوره الضيّق. ولا يطرح حلولًا، بل يزرع شعارات. وإذا كان البعض قد انتظر من هذه الإطلالة موقفًا وطنيًا جامعًا، فإنّ النتيجة كانت خيبة مضاعفة: زعيم سياسي يستحضر لغة الماضي ليحافظ على مقعد في المستقبل، ولو على أنقاض الدولة نفسها.
لقد أثبت جعجع مرّة جديدة أنّ خطابه لا يعبّر عن رجل دولة، بل عن زعيم معركة. وبين رجل الدولة والزعيم الانتخابي فرقٌ شاسع: الأوّل يبني المؤسسات، والثاني يحرقها إذا لم تخدم طموحاته. وللأسف، بدا جعجع في إطلالته الأخيرة أقرب إلى الثاني.
وفي نهاية المطاف، تبقى مسؤولية اللبنانيين أنفسهم في انتخابات عام 2026 أن يميّزوا بين من يريد بناء وطنٍ ومؤسساتٍ حقيقية، ومَن يصرّ على جرّ البلاد إلى منطق الميليشيا والعصبيات. فلبنان لا يحتمل بعد اليوم مزايدات من زعماء لا يتورّعون عن بيع الوطن مقابل مصالح ضيّقة. والمطلوب أن يكون الاقتراع المقبل فعل وعيٍ ومحاسبة، لا تصفية حسابات ولا ولاءات عمياء.