عكس السير: غسان سعود-
توكل بلادك، منذ عقود، للنظامين السوري والسعودي حكم لبنان بنظام عسكري - أمني - مالي ديكتاتوري، وتواصلون الإمساك بمفاصل السلطة المالية من خلال أزلامكم، من رياض سلامة بالأمس إلى كريم سعيد اليوم. وعلى مدى سنوات، تناوب على رئاسة السلطة التنفيذية ثلاث عشرة مرة كلٌّ من رفيق الحريري وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام، وجميعهم من المقرّبين منكم والمحسوبين عليكم. ثمّ تأتي، بكل وقاحة، لتقول إننا دولة فاشلة.
تساند بلادك إسرائيل في تهجير مئات آلاف الفلسطينيين إلى لبنان، وتسعى لإقناعهم بأن هذا البلد هو الوطن البديل الأمثل لهم. ثم تعود بلادك، بعد ثلاثة عقود، لتبارك تثبيت أكثر من مليوني لاجئ سوري على أرض لبنان، من دون أن تتحمل أدنى جزء من تكلفتهم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وبعد كل ذلك، تأتي لتقول إننا دولة فاشلة.
في وقتٍ يُعدّ فيه رئيسُ السلطة القضائية، سهيل عبود من المقرّبين منكم والمصنَّفين في دائرتكم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميع رؤساء الأجهزة الأمنية بلا استثناء، والغالبية المطلقة من المديرين العامين في الإدارات العامة والقطاع المصرفي والمقاولين، فضلًا عن نفوذكم الواسع في القطاعين التربوي والاستشفائي، وسيطرتكم الإعلامية الشاملة - إذ يكاد لا يوجد موظف واحد في هذه الدولة لا يدين بالولاء لكم بعد كل ما ابتدعتموه من منظومات الترغيب والترهيب والعقوبات - ثم يخرج الوقح ابن الوقح ليقول إن الدولة اللبنانية، التي تديرها الولايات المتحدة الأميركية مباشرةً لا بالواسطة، هي دولة فاشلة. يخرج الوقح ابن الوقح ليقول إن الدولة اللبنانية، التي تمنع فيها إدارتكم تعيينَ وزيرٍ في حكومتها ما لم يكن حاملًا لجنسيتكم أو منضويًا في منظومتكم التعليمية، هي دولة فاشلة. يخرج الوقح ابن الوقح ليقول إن الدولة التي يُشرف المستشارون الأميركيون على وزاراتها ولجانها النيابية ومصرفها المركزي، وأجهزتها القضائية والأمنية والعسكرية، ويزرع الأميركيون كاميراتهم في شوارعها ويُحدّدون عبر جمعياتهم أولوياتها، هي دولة فاشلة.
يعرف الدبلوماسيون أن الدولة شيء، وأن الحكومات المتعاقبة شيء آخر؛ لكن تجّار العقارات لا يعرفون.
حتى أول من أمس، كان يمكن القول إن هذا الملياردير المكلّف بتأمين المصالح الاقتصادية الأميركية في تركيا أساسًا، وفي سوريا جزئيًا، يواجه مشكلة مع مجموعة لبنانية لها هي الأخرى مشكلة مع بلاده، وهو أمر قد يعنينا أو لا يعنينا.
أما أمس، فقد تغيّر كل شيء. إذ تجاوز هذا التاجر حدود الخلاف السياسي ليُطلق أحكامه على كيانٍ كامل. يمكنه جزئيًا القول إن الحكومات اللبنانية المتعاقبة حكومات فاشلة - وهو قول يوافقه عليه كثير من اللبنانيين، لكن أن يصف الدولة اللبنانية بأنها دولة فاشلة، فذلك يعني الطعن في الكيان السياسي والجغرافي بكل مؤسساته ومواطنيه.
وليست هذه مجرّد زلّة لسان من تلك «الهفوة التي تمشي على قدمين» وتُدعى توم براك، فقد فصّل كلامه بوضوح حين توسّع من الحديث عن حزب الله إلى المياه والكهرباء والبنية التحتية والنظام المصرفي والإداري والتعليمي.
لم يعد الموضوع إذًا متعلّقًا بالحكومات أو الأفراد أو الآليات التي تُدير شؤون البلد، بل بالجسد اللبناني بأكمله، بكل مواطن ومواطنة. ومع ذلك، واصل ذاك النائم في قصر بسترس شخيره، غير آبه بهذا الانتهاك السافر من تاجر العقارات الوقح، لا لسيادة لبنان فحسب، بل لكرامة كل اللبنانيين.
أيها الوقح، ابن الوقح،
الشعب اللبناني يعاني ما يعانيه من أزمات الكهرباء مثلًا، لأنّ بلادكم هي التي ضغطت على مصر والأردن، متذرّعةً بما تسمّونه «قانون قيصر»، لمنع تصدير الغاز إلى لبنان وتشغيل معامل توليده. كما منعت، عبر عملائها في الحكومات المتعاقبة، بناء معامل جديدة تؤمّن الحدّ الأدنى من حاجات الناس.
الشعب اللبناني يعاني ما يعانيه من حجز لودائعه لأن حاكم مصرف لبنان، الذي كان يدين لكم بالولاء المطلق ولم يمرّ عام من دون أن تكرّموه في نيويورك وواشنطن، قد أساء الأمانة والإدارة، بالتضامن والتكافل مع القطاع المصرفي اللبناني المرتبط - بالكامل - مباشرة مع المصارف الأميركية، ومع الحكومات التي تدين بالولاء الكامل لبلادكم .
فمن هي الإدارة المالية في هذا البلد أيها المتذاكي المتعالي الفارغ؟ ومن هي الإدارة القضائية؟ ومن هي الإدارة الإدارية؟ ومن هي الإدارة الأمنية والعسكرية؟
أليس أزلامكم من يشرفون على كل صغيرة وكبيرة فيها، ويديرونها جميعها مباشرةً وفق تعليماتكم؟
الحكومات تتبدّل، تأتي وتذهب، ومعها تتبدّل ولاءات الموظفين. ومع ذلك، فقد طال حكمكم لهذا البلد طويلًا جدًا، ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى إمكانية قلب المعادلات أو استعادة شيء من التوازن، وهو ما يبشّر بمزيد من الفشل - لكنّه فشل إدارتكم وأزلامكم، لا فشل البلد ولا فشل الشعب.
نعم، هذا الشعب يسكت أحيانًا، ويتلهّى بمعارك جانبية سخيفة، ويتكاسل، ويعضّ على جراحه، ويرقص رغم وجعه، ويستهلك أكثر مما ينتج، وينفق بهبل، وينكفئ سياسيًا... لكن كل ذلك لا يجعله شعبًا فاشلًا. فهو لا يزال يعلّم أبناءه بأفضل ما يستطيع، ويعمل في وظيفتين وثلاث وأربع ليبقى واقفًا على قدميه، ويقاتل بضراوة ليمنع أقوى الجيوش في المنطقة من اقتحام أرضه، رغم كل القوة التدميرية والضربات المعنوية.
نعم، يمكننا أن ننتقد بعضنا البعض في الكثير الكثير، لكن لا يمكن لرأس الدولة اللبنانية، ولا للحكومة، ولا لوزارة الخارجية، التزام الصمت أمام هذا التمادي في إهانتنا كشعب.
قد تكون لدينا الكثير من الملاحظات على فشل الكثير من مؤسساتنا، لكن ذلك لا يعني أبداً أننا دولة فاشلة.
ضعوا لهذا الثرثار حدًّا.