<
22 October 2025
دمشق وقسد.. "تقارب حذر" يمهد لمرحلة جديدة في سوريا

تشهد العلاقة بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مرحلة غير مسبوقة من التقارب السياسي والعسكري، في ظل سلسلة اجتماعات وتفاهمات ميدانية تعكس رغبة مشتركة في حل الخلافات العالقة.

فبعد أعوام من الشكوك واختبار النوايا، يبدو أن الطرفين انتقلا إلى مرحلة أكثر عملية عنوانها "التنفيذ" لا "التجريب"، وسط مؤشرات على توافق تدريجي بشأن قضايا السيادة والدمج الأمني والاقتصادي.

في أحدث فصول هذا التقارب، عقد وفد من الحكومة السورية اجتماعا مع ممثلين عن قوات سوريا الديمقراطية في مدينة الطبقة، تناول التطورات الأخيرة في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب.

 

وأكدت قسد عقب الاجتماع أنها سلمت عددا من المعتقلين لديها إلى الحكومة السورية، مشددة على أهمية استمرار الحوار لضمان الاستقرار ووحدة الأراضي السورية.

 

وجاء هذا اللقاء بعد خطوات ميدانية سبقت الاجتماع بأيام، حين أعلنت قوات سوريا الديمقراطية استعدادها للتعاون مع دمشق في ملفات حساسة، أبرزها تسليم إنتاج النفط من حقول دير الزور إلى الحكومة السورية، بناءً على تفاهمات شفهية جرت بين رئيس البلاد أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي خلال لقاء في دمشق الأسبوع الماضي.

 

وتشير هذه التفاهمات إلى أن "قسد" ستحتفظ بنسبة من الإنتاج لتغطية احتياجات السوق المحلي، في حين تتولى الحكومة إدارة الحقول كجزء من خطة أوسع لإعادة دمج المناطق الشمالية الشرقية ضمن مؤسسات الدولة.

 

من النفط إلى الأمن.. بداية دمج تدريجي

 

تتحدث مصادر محلية عن أن عملية دمج المناطق الخاضعة لـ"قسد" ستبدأ من دير الزور، وتشمل في مراحلها الأولى حقول النفط والمؤسسات المدنية ثم القوات العسكرية والأمنية.

 

هذه الخطوات تمهد لمسار أكثر شمولا، لكنها تصطدم بتحديات واقعية تتعلق بهيكلية "قسد" وتنوع مكوناتها العرقية والتنظيمية.

ويعد ملف انضمام "قسد" إلى الجيش السوري أبرز القضايا الحساسة بين الجانبين، إذ يشكل – بحسب مراقبين – اختبارا حقيقيا لإرادة الطرفين في بناء مؤسسات موحدة بعيدا عن الاصطفافات القومية أو الحزبية.

 

وفي هذا السياق، أكد عضو القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية وعضو اللجنة العسكرية للتفاوض مع دمشق، سيبان حمو، استعداد "قسد" للانضمام إلى الجيش السوري، شريطة أن يتم الدمج على أسس تحترم خصوصيتها وهويتها، وتضمن حقوق جميع مكونات الشعب السوري دون استثناء.

 

من جانبه، شدد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على أن انضمام قوات سوريا الديمقراطية إلى الجيش الوطني يمثل المسار الصحيح لخدمة المصلحة الوطنية العليا، في إشارة إلى دعم دمشق للمسار الدمجي لا الموازي.

 

الخبير السياسي والاستراتيجي عبد الجبار العكيدي، وفي حديثه للتاسعة، على سكاي نيوز عربية، اعتبر أن هناك رغبة حقيقية داخل "قسد" – خصوصا بين الأكراد الوطنيين – في تطبيق اتفاق 10 مارس الموقع بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، وإنهاء كل الخلافات القائمة.

 

وأشار العكيدي إلى أن تعيين سيبان حمو، ضمن اللجنة العسكرية المشتركة مؤشر قوي على هذا التوجه، واصفا إياه بأنه قائد عسكري وسياسي منفتح يدرك طبيعة المجتمع السوري والجيش الوطني.

 

ويرى العكيدي أن الحديث يجب أن يكون عن "دمج" لا "انضمام"، موضحا أن الدمج يعني إعادة ترتيب وهيكلة الجيش السوري بما يسمح باستيعاب قسد ضمن بنيته، في حين أن الانضمام يوحي بكتلة تلتحق بأخرى من دون تغيير داخلي في الهيكل العام.

 

ويؤكد أن الجيش السوري المنشود يجب أن يكون وطنيا حقيقيا يضم العرب والكرد والمسلمين والمسيحيين وجميع المكونات، دون أن يتحول إلى تشكيلات طائفية أو عرقية، لأن "الجيش بلون واحد لا يمكن أن يمثل وطنا".

نحو جيش وطني جامع

أشار العكيدي إلى أن الهدف من عملية الدمج هو بناء جيش وطني لا يقوم على الفرز أو المحاصصة، بل على قاعدة تمثيل شامل لكل السوريين.

ويضيف أن دخول "قسد" ضمن هيكلية الجيش يجب أن يتم وفق آليات واضحة تضمن التوزيع العادل للمكونات، بحيث لا توجد فرق أو ألوية ذات لون قومي أو طائفي واحد، بل تشكيلات مختلطة تعكس الهوية السورية الجامعة.

ويعتبر العكيدي أن العقبة ليست فقط في الجانب العسكري، بل في ضرورة وجود رؤية سياسية ناضجة لدى الطرفين. فحين كانت الفصائل العسكرية في السنوات الماضية – سواء من "قسد" أو من المعارضة المسلحة – تفتقر إلى هذه الرؤية، تعذر بناء جيش وطني موحد. أما اليوم، فهناك وعي متنامٍ بأهمية الحل السلمي والشراكة الوطنية الشاملة.

 

خطوات عملية وتفاهمات ميدانية

لفت العكيدي خلال حديثه إلى أن تطبيق الاتفاق بدأ فعليا عبر معالجة الخلافات في أحياء الأشرفية والشيخ مقصود بحلب، حيث جرت تجاوزات محدودة تمت معالجتها بالحوار.

كما كشف عن لقاء جرى مؤخرا بين وفد حكومي برئاسة العقيد محمد عبد الغني وممثلين عن "قسد" في مدينة الطبقة، شهد إطلاق سراح عدد من المعتقلين الذين كانوا محتجزين في مناطق الرقة ودير حافر.

وصف العكيدي هذه الخطوة بأنها "مؤشر إيجابي" على تقدم المباحثات، وعلى رغبة الطرفين في حل النزاعات بعيدًا عن المواجهة الميدانية.

ويرى الخبير السوري أن لا خيار أمام السوريين سوى الحوار والتفاهمات الوطنية، معتبرًا أن "بناء الدولة لا يتم إلا عبر الحل السلمي"، وأن سيطرة الدولة على كامل أراضيها ضرورة لقيام مؤسسات قوية جامعة.

ويحذر من أن أي نموذج للمحاصصة أو التقاسم العرقي والطائفي – كما في تجارب العراق ولبنان – لن يبني دولة حقيقية، بل يكرّس الانقسام والشللية السياسية.

بين الرغبة والواقع.. التحدي القادم

العكيدي شدد على أن إنجاز الدمج يحتاج إلى تنازلات متبادلة، مؤكدًا أنه "لا أحد يمكنه تحقيق كل ما يريد"، وأن الحل الأمثل هو وضع آليات صحيحة تضمن وحدة البلاد ضمن هيكل وطني متوازن.

كما أشار إلى وجود تيارات كردية متشددة ضمن منظومة "المجتمع الكردستاني"، تمتلك نفوذًا على بعض قيادات "قسد"، مثل حزب العمال الكردستاني في تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، وهو ما قد يعيق بعض جوانب الاتفاق.

في المقابل، يرى أن هناك انفتاحًا متبادلا من القيادة السورية ومن قيادات كردية وطنية مثل مظلوم عبدي وسيبان حمو، على حوار شامل يهدف إلى طيّ صفحة الانقسام، والابتعاد عن أي تدخلات خارجية قد تجر البلاد إلى مواجهات جديدة.

ويختم بالتأكيد على أن "أي نقطة دم سورية غالية على الجميع، ولا أحد يتمناها"، داعيًا إلى أن يكون الدمج بداية مشروع وطني جامع يعيد لسوريا استقرارها ووحدتها.

 

اختبار النوايا انتهى

تبدو دمشق و"قسد" اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من التفاهم، يختبر فيها كل طرف مدى قدرته على التنازل والتكيّف مع شراكة وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة.

فالاجتماعات الميدانية وتسليم المعتقلين والنفط وفتح القنوات السياسية، كلها إشارات إلى أن صفحة "القطيعة" بدأت تنطوي تدريجيًا، لتحل محلها صيغة أكثر واقعية عنوانها "الدمج من أجل الدولة".

لكن الطريق لا يزال طويلًا؛ فالميدان وحده سيحسم إن كان هذا التقارب مجرد هدنة مؤقتة، أم خطوة حقيقية نحو إعادة بناء سوريا على أسس جديدة من الشراكة والهوية الواحدة.

Skynews