<
20 October 2025
كيف يفضح صراع المعادن النادرة هشاشة أوروبا؟

تتصاعد وتيرة الصراع التكنولوجي العالمي مع كل أزمة جديدة تمس سلاسل الإمداد أو الموارد الاستراتيجية، لتكشف أن ما كان يبدو منافسة اقتصادية بات اليوم حرباً حقيقية على مصادر القوة والتفوق الصناعي، وذلك من السباق في الابتكار أو تطوير الشرائح الدقيقة، إلى سباق على المعادن الحيوية التي تمثل العمود الفقري لكل صناعة رقمية أو دفاعية.

تتحرك القوى الكبرى -وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين- لإحكام قبضتها على هذه الموارد التي تحدد مستقبل الطاقة والذكاء الاصطناعي والتقنيات العسكرية، بينما تقف أوروبا في موقع بالغ الحساسية، تتأرجح بين الحليف الأميركي والمورد الصيني. ومع كل خطوة جديدة في هذه "الحرب الباردة الحديثة"، تتضح أكثر هشاشة الموقف الأوروبي أمام معادلة السيطرة على المواد الخام.

في خضم هذا التنافس المتصاعد، تتزايد التحذيرات من أن القارة العجوز قد تتحول إلى الطرف الثالث الخاسر في صراع لا تملك فيه أدوات الردع ولا مصادر البديل، في وقت تزداد فيه القيود الصينية على تصدير المعادن النادرة وتتعقد حسابات الغرب بين أمنه الاقتصادي واستقلاله التكنولوجي.

قلق أوروبي

يشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن:

الحروب التكنولوجية بين الشرق والغرب ليست بالأمر الجديد؛ فخلال الحرب الباردة، تنافست الولايات المتحدة وحلفاؤها بشراسة مع الاتحاد السوفييتي في مجالي استكشاف الفضاء وأنظمة التسليح.

أما اليوم، فقد اشتد التنافس بين واشنطن وبكين، لكن المفارقة أن أوروبا هي من تبدو المرشحة لتكون الخاسر الأكبر هذه المرة.

وبحسب التقرير، فإنه حتى تولي الرئيس دونالد ترامب السلطة، كانت كل من أوروبا والولايات المتحدة تؤكد أهمية المعادن الحيوية في دفع التحول نحو الطاقة الخضراء. أما اليوم، فقد امتد القلق إلى قطاع آخر هو الصناعات الدفاعية الغربية التي بدأت تدق ناقوس الخطر؛ إذ تهيمن الصين على إمدادات العديد من المكونات الأساسية اللازمة لتصنيع الطائرات المسيّرة والدبابات والغواصات والصواريخ.

في الأسبوع الأول من اندلاع الصراع الإيراني الإسرائيلي في يونيو الماضي، تم تبادل نحو 800 صاروخ، يحتوي كل واحد منها على ما بين 2 و20 كيلوغراماً من عناصر الأرض النادرة، من بينها الديسبروسيوم والتيربيوم، وكلاهما خاضع حالياً للقيود الصينية على التصدير. وبناءً على تقديرات متحفظة من البيانات المتاحة، فإن ذلك يعني أن ما بين 1.6 و16 طناً مترياً من هذه العناصر تبخرت خلال سبعة أيام فقط من القتال.

ويعتمد الأداء اللافت لأوكرانيا في حرب الطائرات المسيّرة مع روسيا إلى حدّ كبير على الإلكترونيات المستوردة من الصين. ولم تعد كييف منشغلة كثيراً بما إذا كانت الأسلحة الأوروبية ستصل في الوقت المحدد، بقدر انشغالها باستمرار تدفق المكونات التكنولوجية من الصين.

وينبه التقرير إلى أنه:

خلال الثلاثين عاماً الماضية، أصبحت الصين الرائدة عالمياً في معالجة معظم المعادن الخام الـ54 التي تصنفها هيئة المسح الجيولوجي الأميركية على أنها "حرجة" للصناعة الأميركية، بما في ذلك قطاع الدفاع.

يمكن للصين اليوم معالجة أي معدن تقريباً بتكلفة أقل بنحو 30 بالمئة من منافسيها.

لمجاراة ذلك، سيتعين على الحكومات الغربية تقديم إعانات ضخمة لصناعاتها المحلية.

بينما تستغل بكين احتكارها للمعادن النادرة، تستخدم واشنطن نفوذها للحد من وصول الصين إلى الشرائح الدقيقة الأكثر تطورااً، رغم أن الغالبية العظمى منها تُنتج فعلياً في شركة TSMC التايوانية.

تندرج القيود الصينية الأخيرة على تصدير المعادن النادرة والمنتجات التي تحتويها ضمن الإطار الأوسع للحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين. فكلا البلدين يؤمن بأن المنتصر في سباق السيطرة على الصناعات المحورية - لا سيما الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الصواريخ، والحوسبة الكمية، والروبوتات، والطائرات المسيّرة- سيحظى بأفضلية حاسمة في التنافسين الاقتصادي والعسكري خلال العقود الثلاثة المقبلة.

إلا أن مجموعة من الخبراء الصناعيين والأكاديميين الذين اجتمعوا هذا الأسبوع في مؤتمر حول المواد الخام الحيوية في فيينا خلصوا إلى أن الخاسر الأكبر في هذه المعركة ليس الصين ولا الولايات المتحدة، بل أوروبا.

بينما تدير "أميركا ترامب" ظهرها للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لا تزال هاتان التقنيتان المتجدّدتان جزءاً أساسياً من هوية أوروبا في القرن الحادي والعشرين.

كانت الشركات الأوروبية رائدة في مجالي الطاقة الشمسية والرياح، كما أن السيارات الكهربائية بدأت تدريجياً في زيادة حصتها من صناعة السيارات. لكن الصين باتت تهيمن اليوم على القطاعات الثلاثة مجتمعة، إلى جانب إنتاج بطاريات الليثيوم أيون.

الطرف الثالث

تقول أستاذة الاقتصاد والطاقة، الدكتورة وفاء علي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":

 

"لا شك أن هناك دوماً طرفاً ثالثاً يدفع الثمن في أي صراع بين طرفين.. وفي خضم الحرب الاقتصادية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، يبدو أن الطرف الأوروبي هو من يتحمل التكلفة الأكبر لهذا الصراع".

"أوروبا أدمنت الاعتماد شبه الكامل على المعادن النادرة القادمة من الصين، وهو ما يجعلها الخاسر الأكبر في هذا المعترك".

وتشير في هذا السياق إلى القيود والضوابط التي تفرضها الصين على تصدير المعادن النادرة، وذلك لـ "حماية تكتيكها الاقتصادي وأمنها القومي"، وهو ما أثّر بشكل مباشر على ملف التصنيع الدفاعي الأوروبي، على حد قولها.

 

وتتابع علي قائلة: "الصين دائماً مستعدة لمختلف المتغيرات (..) لذلك شددت القيود على مستلزمات الإنتاج الحربي (..)"، منبهة إلى أن "بكين وجّهت ضربة تكتيكية ذات هدف محدد عبر حجب المعادن النادرة التي تحتاجها أوروبا وحتى الولايات المتحدة، لكونها تمتلك أيضاً سلاح المعالجة والتكرير لتلك المعادن".

 

وتوضح أن الحرب في أوكرانيا أكدت مجدداً أهمية المعادن النادرة، خاصة في صناعة الطائرات المسيرة (..) مشيرة إلى أن "أوروبا اليوم تواجه تحدياً وجودياً في أمنها الصناعي والدفاعي، وقد ألمح المسؤولون الأوروبيون في أكثر من مناسبة أن القارة العجوز هي الخاسر الأكبر في الصراع الصيني- الأميركي، وستظل عالقة بين فكي القوتين في ظل ارتفاع وتيرة المواجهة العالمية".

 

قضية حاسمة لأوروبا

في هذا السياق، نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن المفوض التجاري بالاتحاد الأوروبي، ماروس سيفكوفيتش، قوله، على هامش اجتماع وزراء التجارة بالاتحاد الأوروبي:

 

إن ضوابط التصدير الجديدة التي فرضتها الصين على المواد الأرضية النادرة تشكل قضية حاسمة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، مع استمرار تصاعد التوترات بين بروكسل وبكين.

"تعتبر هذه الإجراءات غير مبررة، وبطبيعة الحال تسبب الكثير من المشاكل والمضاعفات للشركات الأوروبية والصناعة الأوروبية".

شددت الصين قبضتها على إمداداتها من المعادن الخام الحيوية الأسبوع الماضي، وفرضت قيوداً جديدة على صادرات المعادن الأرضية النادرة والمغناطيسات الدائمة. ويحتاج الموردون إلى الحصول على موافقة بكين لتصدير بعض المنتجات التي تحتوي على مواد أرضية نادرة معينة من الصين، كما تخضع السلع المصنوعة بتقنيات معينة من الصين لضوابط التصدير الجديدة.

 

وقالت وزارة التجارة الصينية إن طلبات المنتجات ذات الاستخدامات العسكرية نادرا ما تتم الموافقة عليها، وسيتم مراجعة الطلبات الخاصة بأشباه الموصلات أو أنظمة الذكاء الاصطناعي كل حالة على حدة.

 

وقال سيفكوفيتش: "إن العناصر الأرضية النادرة والمغناطيسات الدائمة هي عناصر أساسية في كل شيء تقريبًا يحتوي على أي عنصر رقمي".

 

وقالت وزارة التجارة الصينية في بيان يوم الثلاثاء إن القيود لا ترقى إلى الحظر وتهدف إلى حماية الأمن القومي للصين واستقرار سلاسل الصناعة والإمداد العالمية.

 

صراع استراتيجي

بدورها، توضح الكاتبة الصحافية الصينية، سعاد ياي شين هوا، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن أوروبا تُعد من أبرز المتضررين في الصراع الاستراتيجي الدائر بين الصين والولايات المتحدة حول موارد العناصر النادرة، تلك التي تصفها بـ"الفيتامينات الصناعية" في مجالات الطاقة الجديدة والدفاع والتصنيع المتقدم.

 

وتشير إلى أن أمن سلسلة الإمدادات الخاصة بهذه الموارد يرتبط مباشرةً بعصب الاقتصاد الأوروبي واستقلاله الاستراتيجي، إلا أن تبعية أوروبا المستمرة جعلتها عرضة لتقلبات هذا الصراع بين القوتين العالميتين.

 

وتشدد على أن النسبة الأكبر من واردات أوروبا من العناصر النادرة تأتي من الصين، علاوة على نسبة الاعتماد الأكبر في عمليات التصنيع، موضحة أن "من محركات السيارات الكهربائية الألمانية إلى المكونات الأساسية للطائرات المقاتلة الأوروبية يعتمد معظمها على العناصر النادرة الصينية".

 

كما تلفت إلى أن تقييد الصين لصادرات هذه العناصر وارتفاع الرسوم الجمركية الأميركية تسببا في تقلبات حادة بالأسعار، ما أدى إلى زيادة تكاليف الإنتاج في أوروبا وانخفاض ربحية السيارات الكهربائية، إضافة إلى توقف مشاريع الطاقة الخضراء بسبب نقص المواد الخام.

 

وتتابع أن الأخطر من ذلك هو أن المنتجات الثانوية التي تستوردها أوروبا من الولايات المتحدة والتي تحتوي على العناصر النادرة، تعود أصولها في الأساس إلى الصين، مما يخلق ما تسميه بـ"حلقة اعتماد غير مباشرة" يصعب على أوروبا كسرها. وتشير إلى أنه حتى في حال رغبت أوروبا بالتحول إلى مصادر بديلة، فإنها تصطدم بواقع احتكار الصين لتكنولوجيا تكرير العناصر النادرة.

Skynews