<
14 October 2025
الجرّافات في «بنك أهداف» العدو: ممنوع إعمار الجنوب!

فراس خليفة -

 

على مدى الأشهر الماضية، نفّذ العدوّ الإسرائيلي سلسلة اعتداءات استهدفت عدداً كبيراً من الجرّافات والحفّارات في بلدات حدودية جنوبية ومناطق أخرى في الجنوب والبقاع. وكان آخرها الغارات التي طاولت فجر السبت الماضي معارض لبيع الجرافات والآليات في منطقة مصيلح، في ما عُدّ أكبر عدوان جوي على منطقة اقتصادية منذ انتهاء حرب الأيام الستة والستين. تأتي هذه الاستهدافات في سياق الاعتداءات المتواصلة والانتهاكات اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار، إلا أنّ استهداف الآليات الهندسية يحمل دلالة خاصة، لجهة دورها في رفع آثار العدوان وعملية إعادة الإعمار. الرسالة الإسرائيلية واضحة: ممنوع إعادة الإعمار وعودة مظاهر الحياة في القرى الجنوبية الأمامية!

 

قبيل الرابعة من فجر السبت الماضي، لَمَع نورٌ مفاجئ في مَرسَم محمد الزين في مصيلح. شعاع وكتلة نارية كبيرة تلاهما دويّ قوي فأصوات هائلة متتالية.

 

الأربعيني الذي كان في ذلك الوقت يرسم إحدى لوحاته على وقع المسيّرات الإسرائيلية، لم يكن يتوقّع أنَّ تغير الطائرات الحربية على مكان قريب من شقته التي لم يمضِ أسبوعان على الانتهاء من إعادة ترميمها بعد تعرض البناء الذي تقع فيه لأضرار كبيرة في حرب الـ66يوماً. «شعرتُ وكأننا لا نزال في قلب الحرب التي عشت كل تفاصيلها ولم أغادر خلالها منزلي».

 

برأي محمد، لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لفهم دوافع استهداف العدو مصالح اقتصادية وتجارية كمعارض الحفّارات والجرَّافات: «العدو يدخل اليوم بلعبته الجديدة، وهي تدمير أدوات وآلات إعادة البناء ليقطع الأوصال مجدداً ويقطع الأمل في إعادة الإعمار». ويُعرب عن خشيته من تبعات هذا النوع من الاستهدافات مع بقاء قسم كبير من سكان الجنوب خارج بيوتهم المدمّرة. إذ إن عملية إعادة الإعمار ستصبح «مغامرة؛ و«حتى في الأماكن الآمنة في الجنوب لن يعود تحريك هذه الآليات أمراً طبيعياً». في مصيلح، ينظر أحمد طباجة (65 عاماً) إلى «جنى العمر الذي صار رماداً».

 

يُحصي الرجل الذي أمضى قرابة 50 سنة في مجال تجارة الآليات الثقيلة، تدمير 116 آلية متنوعة من حفارات وجرافات وجرارات زراعية ومحادل وفلّاشات زفت وغيرها، مقدّراً خسارته بما يُراوح بين 5 و6ملايين دولار، إضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبناء السكني العائد له. يقول طباجة الذي افتتح مؤسَّسته قبل 35 عاماً: «لا أفهم لماذا تُستهدف مؤسسات ومصالح اقتصادية معروفة في مجالها لكل اللبنانيين».

 

تساؤل يقود أصحاب المصالح والمؤسسات المشابهة إلى سؤالين أساسيين: الأول، حول كيفية ترجمة «الدولة» وعودها على مستوى دفع التعويضات على خسائر قُدّرت بعشرات ملايين الدولارات، والثاني حول الشعور بالأمان والحماية. إذ «مَن يضمن أن لا يُعاد استهدافنا مجدداً في حال تمكنّا من أن نُعيد فتح مصالحنا؟»، يسأل أحد أصحاب المعارض على طريق مصيلح التي تشكّل واحداً من أكبر الأسواق التجارية لهذا النوع من الآليات.

مجازرآليّات

مِنعلىشُرفةمنزلهالقريبفيمزرعةديرتقلا، كان عدنان كنيار يراقب الغارات الإسرائيلية على ورشة تصليح وبيع الحفارات والآليات العائدة لابنه محمد في بلدة أنصارية (صيدا) مساء 3 أيلول الماضي. 12 غارة شنّها طيران العدو أحالت 46 آليّة إلى خُردة، وأحدثت أضراراً كبيرة في أبنية المنطقة السكنية. لا يجد كنيار تفسيراً لاستهداف «مصلحته» مرّتين (الأولى خلال حرب الـ66يوماً)، سوى أن العدو يريد توجيه رسالة واضحة بمنع التعافي والتفكير في إعادة الإعمار، ويقدّر خسائره في الضربتين بأكثر من 10 ملايين دولار.

 

في «بورة» تزيد مساحتها على 4 آلاف متر مربّع، كان ابن العائلة صاحبة الباع الطويل في مجالها، يحاول مع عمّاله، فرز بعض ما تبقّى من قطع غيار ومعدّات يمكن الاستفادة منها. وبانتظار استقرار الأوضاع الأمنية نهائياً، فإنّ كنيار لا يفكّر بالشروع في أيّ خطوة جديدة: «ماعاد فيّي افتح مرّة تالتة ويرجع يصير نفس الشي»، لافتاً إلى أن «هناك وعوداً كلامية بالتعويض عن الخسائر... لكن ما شفنا شي بعد»!

 

كما في أنصارية، كذلك في دير سريان (مرجعيون). يقول خليل كَرِيم (55 عاماً): «انمسحنا على الآخر. ما قادر إعمل شي حالياً». خليل الذي أُصيب في الغارات التي استهدفت مرآبه وأدّت إلى استشهاد عامل سوري وجرح آخر، يقدّر خسائره بمليوني دولار، مع خروج 15 آلية متنوعة بين جرافات وشاحنات من الخدمة نهائياً. والنتيجة؟ «لا عمل ولا بيت ولا سيارة ولا من يعوّضون... كلن راحو»!

 

ويلفت رئيس بلدية دير سريان علي لوباني إلى أن العدو الإسرائيلي يريد منع الجرافات من إزالة الردم ومن إعادة الإعمار، كما يريد منع كل آلية تفتّش عن جثامين شهداء مفقودين، ولا يتوانى عن ضرب كل ما يعتبر أنه يسهم في عودة الحياة إلى المنطقة الحدودية».

 

ويقول المهندس رياض الأسعد إن استهداف الجرافات والحفارات «ضرب للإرادة عند الجنوبيين الذين باتوا أكثر قناعة بأن لا يعتمدوا إلا على أنفسهم. هكذا بنوا قراهم وبلداتهم وهكذا حرَّروا أرضهم». ويضيف: «العدو يريد القول لكل الناس بشكل واضح، إن لا إعادة إعمار إلا وفقاً لشروطي». ويشمل ذلك، «حتى الجنوبيين القادرين مادياً على إعادة إعمار منازلهم على نفقتهم. العدو يقول: ممنوع أن تبادروا إلى ذلك».

 

يريد العدو منع أي مظهر من مظاهر الحياة في القرى والبلدات الأمامية. في بعض الأماكن يمنع الجرافات العاملة مع مجلس الجنوب من مزاولة أعمال رفع الركام، إلا بعد التحقق من تفاصيل دقيقة كما حصل أخيراً بموضوع قطاف الزيتون.

 

وفي أماكن أخرى «أكثر حساسية»، لا يُسمح بعمل الجرافات والحفارات إلا بمواكبة من الجيش واليونيفل كما في مارون الراس وميس الجبل وغيرهما. استهداف الجرافات «هو بالنتيجة استهداف لعودة الناس وبقائهم في أرضهم، وفقاً ليوسف إسماعيل، عضو المجلس البلدي في بيت ليف (بنت جبيل) مذكّراً باعتداءين من هذا النوع تعرضت لهما البلدة.

 

عندما تصبح الجرّافة عدوّاً

بعيداً من كونها، بنظر العدو، «شبهة أمنية»، تشكل الحفارات والجرافات على اختلاف أنواعها وأحجامها العمود الفقري للبنى التحتية، وهي مفتاح العمل، إذ إن مراحل إعادة البناء كلها تستند على هذه الآليات، وفقاً لخبراء في مجال الإعمار والبناء.

 

لكن الباحث العلمي وسيم جابر يذهب أبعد من ذلك في محاولته لتفسير معنى هذا النوع من الاستهدافات. إذ يرى أنها «حرب على الأمل»، موضحاً أنه «في المعادلة الإسرائيلية، الجرافة أخطر من الصاروخ. الصاروخ يقتل الحاضر، بينما الجرافة تبني المستقبل. ولأن إسرائيل لا تريد لجنوب لبنان مستقبلاً، فهي تستهدف الجرافات». يضيف جابر: «الشعب الذي يعود يُسقط مشروع الضم، والقرية التي تُعمّر تُسقط الاحتلال، والجرافة التي تبني تهدم الحلم الإسرائيلي».

استهداف الجرافات بالأرقام والتواريخ

حسب رصد «استديو أشغال عامة» تم توثيق نحو 42 اعتداءً إسرائيلياً على جرافات وحفارات في مناطق الجنوب والبقاع منذ وقف إطلاق النار في أواخر تشرين الثاني 2024، ما أدى إلى سقوط 23 شهيداً وجرح العشرات، وفي ما يأتي قائمة بهذه الاستهدافات.

- 2 كانون الأول 2024: استهدفت مسيّرة جرّافة للجيش في منطقة حوش السيد علي (الهرمل)، ما أدى إلى إصابة جندي بجروح.

- 30 كانون الثاني 2025: استهداف 3 جرافات في بلدة الطيبة، وآلية «بوكلين» في يارين.

- 13 شباط: استهداف «بوكلين» وجرافة في العديسة.

- 22 شباط: إطلاق نار على آليات وجرافات لمجلس الجنوب كانت تفتح الطرقات في ميس الجبل.

- 6 نيسان: استهداف جرّافة كانت تعمل في استصلاح الأراضي في خراج بلدة زبقين، ما أدّى إلى استشهاد علي حسن صليبي وعدنان فضل بزيع وإصابة عاملين سوريين.

- 10 نيسان: استهداف حفارة في عيتا الشعب بأكثر من غارة.

- 13 أيار: استهداف حفارة في جويا.

- 15 أيار: استهداف جرافة في معمل للحجارة في أرنون أدى إلى استشهاد محمد ماروني.

- 17 أيار: قنبلة على جرار زراعي في الضهيرة.

- 21 أيار: استهداف «بوكلين» في ياطر أدى إلى استشهاد مواطن وجرح آخر.

- 4 حزيران: قنابل على جرافة في يارون.

- 26 حزيران 2025: استهداف جرافة «بوبكات» على طريق شقرا واستشهاد سائقها علي قاروط.

- 15 تموز: استهداف حفارة لآبار المياه في منطقة وادي فعرا في البقاع الشمالي، ما أدى إلى استشهاد 12 شخصاً بينهم ‌سبعة سوريين وسقوط 3 جرحى.

- 18 تموز: تفجير جرافتين لمجلس الجنوب في ميس الجبل.

- 2 آب: استهداف «بوبكات» وحفارة في كفركلا.

- 5 آب: إلقاء قنبلة على حفارة في ميس الجبل.

- 6 آب: غارات متكررة على مرآب لبيع وتصليح الجرافات والحفارات في دير سريان، واستشهاد عامل سوري.

- 8 آب: استهداف جرافة عند أطراف عيترون.

- 12 آب: قنبلة صوتية على جرافة في أطراف ميس الجبل.

- 14 آب: استهداف جرافة في يارون.

- 16 آب: استهداف جرافة في عيترون.

- 20 آب: قنبلة صوتية على حفارة في ميس الجبل.

- 22 آب: قنبلة على حفارة بين عيناثا وكونين.

- 23 آب: قنبلة على حفارة في يارون.

- 28 آب: استهداف حفارة في يارون.

- 28 آب: شهيدان للجيش اللبناني أثناء الكشف على محلقة مذخرة بقنبلة سقطت قرب حفارة في الناقورة.

- 1 أيلول: استهداف «بوكلين» في رب ثلاثين.

- 2 أيلول: قنبلة على حفارة في بلدة يارون، واستهداف حفارة في ميس الجبل.

- 3 أيلول: غارات عنيفة على مجمع لتصليح وصيانة الجرافات في بلدة أنصارية، واستشهاد سوري وسقوط 16 جريحاً.

- 7 أيلول: استهداف جرافة في المعلية.

- 11 أيلول: استهداف جرافة في عيترون.

- 14 أيلول: استهداف جرافة في عيترون.

- 19 ايلول: استهداف حفارة في العديسة.

- 20 أيلول: استهداف حفارة في الخيام.

- 29 أيلول: استهداف حفارة في سحمر ما أدى إلى استشهاد سائقها محمد شعشوع.

- 2 تشرين الأول: استهداف جرافة في مارون الراس.

- 3 تشرين الأول: استهداف حفارة في ميس الجبل.

- 7 تشرين الأول: استهداف جرافة في ياطر واستشهاد سائقها علي قدوح.

- 11 تشرين الأول: غارات على معارض لبيع الجرافات والحفارات على طريق مصيلح واستشهاد سوري، واستهداف حفّارة في بلدة بليدا.

 

علي قدوح «يُزهر» في وادي مريمين

كان آخر ما فعله علي قدوح قبل أن يغادر منزله للمرّة الأخيرة، صباح السابع من تشرين الأول، أن وضع قبلة على جبين طفلته فاطمة، ابنة الأشهر الثمانية. لم يُعرَف عن علي سوى أنه «السند والمعيل» لعائلته المؤلفة من والديه وأربع شقيقات. «كل وقته كان شغل، ويتّم العيلة كلها»، تقول والدته.

 

في السابعة من عمره، رافق علي المولود عام 1998 عمّه إلى معمل الحجارة. وفي الحادية عشرة، قاد جرّافة صغيرة (بوب كات) للمرّة الأولى. هناك، بين الحجارة والتراب، وُلد شغفه بالأرض وأهلها، وصارت قيادة الجرّافة مع الوقت «لعبته المفضّلة». في السنوات الأخيرة، عمل في مجال استصلاح الأراضي وأسّس «مصلحته» الخاصة، و«شغله كان مدنياً»، تقول والدته في معرض تأكيدها أنّ ابنها استُشهد خلال ممارسة عمله اليومي المعتاد.

 

ليس بعيداً من النقطة التي امتزج فيها دمه بتراب ياطر، كان وادي مريمين يبدو أكثر حدّة وأقل انسيابية، تحفّه أشجار السنديان والبطم والملّول، وتغفو بين صخوره الأجران القديمة، شاهدةً على حكايات الأرض التي أحبّها. من هناك، كان علي يجمع الحطب في الشتاء ويوزّعه على المحتاجين من أبناء قريته. «علي كان أجمل شي عنا. فقده صعب جداً، لكن الحمد لله أكرمه الله بالشهادة، تقول أُمُّ الشهيد.

 

 

الأخبار