يعمل مستشارو الرئيس الأميركي دونالد ترامب على صياغة "رسالة اقتصادية" جديدة، تهدف إلى حث الرئيس على تهدئة المخاوف الشعبية حول تباطؤ نمو الوظائف، من خلال التركيز على التحسن المتوقع للبيانات الاقتصادية في المستقبل القريب.
وعوضاً عن التركيز على الأرقام الاقتصادية الحالية المتقلبة، يدفع المستشارون الرئيس ترامب إلى تبنّي خطاب أكثر طمأنة، تحت شعار "انتظروا حتى 2026"، مؤكدين أن المؤشرات الاقتصادية ستبدأ بالتحسّن، مع بداية الربع الأول من عام 2026.
ترامب يستجيب لمستشاريه
وبحسب تقرير أعدته صحيفة "وول ستريت جورنال"، واطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يبدو أن الرئيس ترامب أخذ بنصيحة معاونيه فعلاً، فرغم أن الاقتصاد كان عاملاً أساسياً في نجاح حملته الانتخابية، أصبح الرئيس الآن، أكثر ميلاً إلى التركيز على قضايا الهجرة والجريمة، إلى جانب خوض مواجهات سياسية مع من يصنّفهم في خانة أعدائه.
وعندما يتطرق ترامب راهناً إلى الشأن الاقتصادي، يركّز في الغالب على أداء سوق الأسهم التي تسجّل ارتفاعات لافتة، ويشير إلى أن ثمار سياساته، ستبدأ بالظهور العام المقبل على أقرب تقدير، حين سيشعر الناخبون بتأثيرها المباشر.
وخلال فعالية خُصصت أخيراً لموضوع التوحّد، تجاهل الرئيس أسئلة الصحفيين حول الاقتصاد قائلاً: "أفضّل ألا أتحدث عن بعض الهراء بشأن الاقتصاد. سأقول هذا فقط: الاقتصاد في حالة مذهلة".
تحوّل واضح في الخطاب
ويعكس هذا الموقف تحولاً واضحاً في خطاب ترامب، مقارنة بأسابيعه الأولى في المنصب، حين كان يجعل من الاقتصاد محوراً رئيسياً في خطاباته وأحد أبرز أدواته السياسية.
وبحسب "وول ستريت جورنال" فقد كانت الإجراءات الاقتصادية المبكرة التي اتخذها ترامب من بين الأكثر إخلالاً بالاقتصاد منذ أجيال، إذ فرض رسوماً جمركية واسعة النطاق على جميع الواردات تقريباً، وسيفرض المزيد منها لاحقاً، وأوقف الهجرة وكثّف عمليات الترحيل، وأجبر الشركات على إبرام صفقات مع إدارته.
وتوقع الرئيس في البداية أن تُبشر هذه الخطوات بعصر ذهبي، لكن ذلك لم يحدث بعد، إلا أن ترامب يستمر في التباهي بقوة الاقتصاد، معتمداً على بعض المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، مثل ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي قدره 3.8 في المئة في الربع الثاني، حيث يتجه الناتج أيضاً للنمو بمعدل مماثل في الربع الثالث الذي انتهى الأسبوع الماضي.
ومع ذلك، لا تزال بعض المؤشرات الاقتصادية المهمة تُسجل تراجعات، فقد تباطأ نمو الوظائف في أميركا خلال شهر أغسطس 2025، مع إضافة الاقتصاد لـ 22 ألف وظيفة فقط . ورغم أن الرسوم الجمركية لم تؤدِّ إلى ارتفاع الأسعار بالقدر الذي توقعه الاقتصاديون في البداية، إلا أن التضخم لا يزال يثقل كاهل المستهلكين مع استمرار ارتفاع أسعار السلع. كما لا تزال أسعار المنازل مرتفعة بشكل كبير في جميع أنحاء أميركا.
ضغوط على الرئيس وحزبه
ويتعرض الرئيس الأميركي وحزبه لضغوط هائلة لتحسين المزاج العام تجاه الاقتصاد، فترامب والجمهوريون على وشك مواجهة انتخابات التجديد النصفي في عام 2026، حيث يحظى الديمقراطيون بفرصة للفوز بالأغلبية في كل من مجلسي النواب والشيوخ.
ووفقاً للتقرير الذي أعدته صحيفة "وول ستريت جورنال" واطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فقد ازداد الرأي السلبي تجاه قيادة ترامب للاقتصاد، في الأشهر الأخيرة، إذ أظهر استطلاع أجرته وكالة أسوشييتد برس ومؤسسة نورك في سبتمبر 2025، أن 37 في المئة فقط من البالغين وافقوا على تعامل ترامب مع الاقتصاد، بينما عارضه 62 في المئة. كما ووفقاً لاستطلاع حديث، أجرته صحيفة نيويورك تايمز، قال 45 في المئة من الناخبين، إن ترامب ساهم في تدهور الاقتصاد منذ توليه منصبه، بينما رأى 32 في المئة أنه حسّنه.
انتعاش لاحق
ويقول اقتصاديون مستقلون إن الكثير من سياسات ترامب، وخاصةً المتعلقة بالهجرة والرسوم الجمركية، من المرجح أن تؤثر سلباً على النمو وترفع التكاليف، على الأقل في المدى القصير. ولكن في الوقت عينه يتوقع العديد من هؤلاء أن يشهد الاقتصاد الأميركي تحسناً وانتعاشاً في العام 2026، مع تلاشي حالة عدم اليقين بشأن الرسوم الجمركية وخفض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة.
وبالنسبة لمسؤولي الإدارة، فإن تغيير المسار الاقتصادي للرئيس ترامب ليس خياراً وارداً، ففي ولايته الأولى، شعر ترامب بالإحباط من مساعديه الذين كانوا يحاولون كبح جماح غرائزه. وحالياً يحاول بعض مستشاري الرئيس، صقل التعابير للتأكيد على الجهود التي يقوم بها الحزب الجمهوري لمساعدة الطبقة المتوسطة.
وفي بيان قال المتحدث باسم البيت الأبيض، كوش ديساي، إن الإدارة الأميركية تركز على دفع الإصلاحات، وتأمين تريليونات الدولارات من الاستثمارات الصناعية، وتنفيذ صفقات تجارية تاريخية من شأنها أن تُنعش الهيمنة الصناعية الأميركية.
ما الذي يخفيه الخطاب الجديد؟
ويقول الخبير المصرفي بهيج الخطيب، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن تحول خطاب ترامب نحو شعار "انتظروا حتى 2026" يحمل دلالتين أساسيتين، الأولى تهدئة المخاوف بين المستثمرين والمستهلكين بشأن الوضع الراهن، والثانية خلق أرضية نفسية لإبقاء الأسواق مستقرة أثناء انتظار نتائج السياسات الاقتصادية طويلة الأمد، فالأسواق عادةً تميل إلى الاستجابة للتوقعات المستقبلية أكثر من الأداء الفعلي المؤقت، والرسالة المستقبلية الإيجابية التي يقوم ترامب بنشرها تبني توقعاً بأن الاقتصاد سيتحسن، ما قد يدعم الأسواق ويخفف من التراجع المحتمل على المدى القريب.
ويؤكد الخطيب أن استراتيجية "انتظروا حتى 2026" تمثل نموذجاً حديثاً لكيفية استخدام الإدارة الأميركية للخطاب السياسي كأداة اقتصادية، بحيث يصبح التوقع المستقبلي جزءاً من إدارة المخاطر في الأسواق، كما أن هذه الاستراتيجية تمنح إدارة ترامب الوقت الكافي لإعادة ضبط السياسات الضريبية والتحفيزية وتعزيز الاستثمارات الصناعية، وخلق بيئة اقتصادية أكثر استقراراً قبل الانتخابات النصفية المقبلة، لافتاً إلى أن هذا النهج يعكس فهم الإدارة لأهمية مزامنة التوقعات السياسية مع التحسينات الاقتصادية الفعلية، خصوصاً في ظل تباطؤ نمو الوظائف وبقاء التضخم مرتفعاً، وهو عامل حاسم للحفاظ على ثقة الناخبين والمستثمرين على حد سواء.
مكاسب والمخاطر
ويشير الخطيب إلى أن الاعتماد على استراتيجية "انتظروا حتى 2026" أمر محفوف بالمكاسب والمخاطر، فمن جهة يمكن لهذه الاستراتيجية أن تمنح الأسواق والمستثمرين الثقة المطلوبة لدعم النمو الاقتصادي على المدى القصير، ومن جهة أخرى، فإن أي إخفاق في تحقيق التحسن المتوقع بحلول عام 2026 قد يؤدي إلى رد فعل عنيف في الأسواق المالية ويزيد الضغوط على المستهلكين والشركات، ويجعل الرسالة المستقبلية نفسها مصدر قلق إذا شعرت الجماهير بأن الواقع يبتعد عن التوقعات المعلنة.
خطر التأخير
ويحذر الخطيب من أن أي تأخير في تنفيذ سياسات تحفيزية أو خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، قد يفاقم الضغوط الاقتصادية الحالية، ويزيد من حالة عدم اليقين في الأسواق، مما قد يؤدي إلى تباطؤ إضافي في نمو الوظائف، وزيادة العبء المالي على الأسر في ظل استمرار التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية، ويضع الاقتصاد الأميركي أمام اختبار حقيقي لقدرة الإدارة على تحقيق التوازن بين دعم النشاط الاقتصادي والحفاظ على استقرار الأسواق المالية.
عامل حاسم في الانتخابات
من ناحية أخرى، يؤكد المحلل الاقتصادي جوزف زغبي، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن الوضع الاقتصادي المرتبط بالوظائف والتضخم، سيكون عاملاً حاسماً في تحديد المزاج الشعبي الأميركي قبل الانتخابات النصفية لعام 2026، إذ أن أي شعور بعدم تحسن ملموس في مستوى المعيشة قد يضغط على قاعدة الناخبين الجمهوريين، ويعطي الديمقراطيين فرصة لاستغلال هذا التراجع في الحملات الانتخابية، ولذلك فإن استراتيجية "انتظروا حتى 2026" لا تهدف فقط إلى تهدئة الأسواق، بل إلى شراء وقت ثمين لإدارة ترامب لتنسيق السياسات الاقتصادية وتحقيق نتائج ملموسة، يمكن أن تُعرض على الناخبين قبل موسم الانتخابات.
مرحلة انتقالية معقّدة
ويرى زغبي أن وعود ترامب الاقتصادية، لم تتحقق فوراً لأن السياسات الاقتصادية تحتاج وقتاً لتترجم إلى نتائج فعلية على سوق العمل والسلع والخدمات، كما أن الضغوط الخارجية والتضخم وقيود السوق، أعاقت تحقيق "قفزة سريعة" في المؤشرات، خصوصاً أن الاقتصاد الأميركي كان لا يزال يتعامل مع آثار الاضطرابات العالمية في سلاسل الإمداد وارتفاع تكاليف الإنتاج، مشيراً إلى أن الرسوم الجمركية الواسعة والحواجز التجارية التي فرضها ترامب خلقت بيئة انتقالية معقدة، دفعت الشركات إلى إعادة هيكلة خطوط إنتاجها واستراتيجياتها الاستثمارية، ما جعل التأثير الإيجابي لهذه الإجراءات يتأخر نسبياً.
ويشدد زغبي على أن هذا التأخير لا يعني فشل سياسات ترامب الاقتصادية، بل يعكس طبيعتها طويلة الأمد، التي تراهن على بناء قاعدة إنتاجية جديدة بدلاً من الاعتماد على دورات الاستهلاك قصيرة المدى.