<
04 October 2025
لماذا يلهث المستثمرون وراء الذهب؟

على مرّ العصور، كان الذهب ملاذاً آمناً في أوقات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، فمكانته كسلعة عالية القيمة وموثوقة، يسهل نقلها وبيعها في أي مكان، تمنح شعوراً بالأمان في ظل الاضطرابات.

ورغم مكانته المرموقة كملاذ آمن، إلا أن الذهب لا يحظى بإعجاب جميع المستثمرين، ومن أبرز هؤلاء، المستثمر الشهير وارن بافيت، المعروف بحكمته في عالم المال والاستثمار، والذي وصف الذهب بأنه "أصل عقيم"، وذلك في رسالة وجهها لمساهمي شركة بيركشاير هاثاوي عام 2011.

ولكن وعلى النقيض من هذا الرأي، اندفع المستثمرون نحو السبائك الذهبية في ظل تصاعد الحرب التجارية خلال الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والمخاوف المرتبطة بارتفاع الدين الأميركي إلى مستويات قياسية، إلى جانب القلق المتزايد بشأن استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.

وبحسب تقرير أعدته "بلومبرغ" واطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فقد اتجه المستثمرون بكثافة نحو صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب هذا العام، وقد بلغ إجمالي حيازاتهم للمعدن النفيس في سبتمبر 2025 أعلى مستوى له في ثلاث سنوات.

وقد أدى هذا الإقبال الكبير إلى تسجيل الذهب مستويات قياسية في عام 2025، ليواصل المعدن الأصفر موجة الارتفاعات الحادة التي بدأت في عام 2024. وخلال تعاملات يوم الثاني من أكتوبر 2025، تجاوزت العقود الآجلة للمعدن الأصفر تسليم ديسمبر مستوى 3900 دولار للأونصة للمرة الأولى في تاريخها، وذلك في أعقاب فشل المشرعين الأميركيين في التوصل إلى اتفاق بشأن التمويل الفيدرالي، ما أدى إلى أول إغلاق حكومي منذ ما يقرب من سبع سنوات.

 

لماذا يُعتبر الذهب ملاذاً آمناً؟

بالنسبة للمستثمرين المعاصرين يُعتبر الذهب ملاذاً آمناً بالدرجة الأولى نظراً لاستقراره وسيولته، وليس إلى أي فائدة جوهرية.

 

ويتمتع الذهب بتاريخ حافل من الارتفاع في القيمة خلال فترات الاضطراب في الأسواق، كما يُنظر إليه كوسيلة تحوط ضد التضخم، عندما تتآكل القوة الشرائية للعملات.

 

وعادة ما يُصبح الذهب أكثر جاذبية في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة، حيث تفاعلت الأسواق مع تخفيض الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لأسعار الفائدة بربع نقطة مئوية في 17 سبتمبر 2025، ولكن استمرار تكثيف ترامب لضغوطه على الاحتياطي للقيام بمزيد من التخفيضات لأسعار الفائدة، ساهم في ارتفاع أسعار السبائك المعدنية، تحسّباً لمزيد من التيسير النقدي من جانب البنك المركزي.

 

كما ارتفعت مكانة الذهب كملاذ آمن مع اهتزاز الثقة في الملاذات الآمنة الأخرى، لا سيما الدولار الأميركي والسندات الحكومية. فالذهب عادة ما يتحرك بعكس الدولار، وبما أن أسعاره تُحدد بالدولار، فإن تراجع قيمة العملة الأميركية يجعله أرخص بالنسبة لحاملي العملات الأخرى، علماً أن الدولار الأميركي هبط في منتصف سبتمبر إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من ثلاث سنوات أمام العملات الرئيسية الأخرى.

 

وبعيداً عن تقلبات السوق، فإن امتلاك الذهب متجذر بعمق في الثقافتين الهندية والصينية، وهما من أكبر أسواق هذا المعدن في العالم، حيث تُنقل المجوهرات والسبائك وغيرها من المصوغات، عبر الأجيال كرمزٍ للرخاء والأمان. وبحسب "بلومبرغ" تمتلك الأسر الهندية حوالي 25000 طن متري من الذهب، أي أكثر من خمسة أضعاف الكمية المُخزّنة في مستودع فورت نوكس الأميركي، الذي يضم نحو نصف احتياطيات الذهب التابعة لوزارة الخزانة الأميركية.

 

ما الذي دفع الذهب للارتفاع قبل عودة ترامب؟

يعود الارتفاع الهائل في أسعار المعدن الأصفر إلى بداية عام 2024 وقبل عودة ترامب إلى السلطة، وذلك بدفع من عمليات الشراء الضخمة التي قامت بها البنوك المركزية، لا سيما في الأسواق الناشئة، سعياً منها لتقليل اعتمادها على الدولار الأميركي، العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، حيث يُساعد الذهب على تنويع احتياطيات النقد الأجنبي للدول ويحميها من انخفاض قيمة عملاتها.

 

وكانت البنوك المركزية من المشترين الصافين للذهب على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، ولكن سرعة مشترياتها تضاعفت بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أن تجميد الولايات المتحدة وحلفائها، لأموال البنك المركزي الروسي المودعة في بلدانهم، سلّط الضوء على مدى إمكانية تأثر أصول العملات الأجنبية بالعقوبات.

 

وتُظهر بيانات مجلس الذهب العالمي، أن البنوك المركزية حول العالم، اشترت خلال عام 2024 أكثر من 1000 طن من السبائك، وذلك للعام الثالث على التوالي، لتُصبح هذه البنوك مالكة لحوالي خُمس إجمالي الذهب الذي تم استخراجه.

 

ما الذي قد يوقف ارتفاع سعر الذهب؟

بعد مسيرة صعودية شبه متواصلة لسعر الذهب منذ أوائل العام 2024، قد يكون هناك في النهاية، بعض التماسك مع قيام المستثمرين بإيداع مكاسبهم. كما أن التخفيض الكبير في تعريفات ترامب الجمركية واتفاق السلام بين روسيا وأوكرانيا قد يُحفزان انخفاض السعر.

 

ولكن البنوك المركزية كانت أهم ركيزة لدعم الزخم الصعودي للذهب، مما يعني أنها تمتلك القدرة على إلحاق أكبر ضرر إذا قلصت احتياطياتها.

 

ولا يوجد حالياً ما يشير إلى أن أي مالك كبير للذهب، يفكر في هذا الأمر، إذ باعت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة كميات قليلة جداً من الذهب في العقود الأخيرة مقارنةً بتسعينيات القرن الماضي، عندما أدت المبيعات المستمرة إلى انخفاض أسعار السبائك بأكثر من الربع على مدار العقد.

 

ووسط مخاوف من أن المبيعات غير المنسقة كانت تزعزع استقرار السوق، تم إبرام أول اتفاقية ذهب للبنوك المركزية في عام 1999، باسم اتفاقية واشنطن للذهب، والتي اتفق بموجبها الموقعون على الحد من مبيعاتهم الجماعية من السبائك.

 

الذهب كأصل مادي.. هل يشكل تحديات للمستثمرين؟

امتلاك الذهب بشكل مادي تنتج عنه تكاليف مخفية، إذ يتحمل مالكوه تكاليف التخزين والأمن والتأمين، كما أنه عادةً ما يدفع المستثمرين الذين يشترون سبائك وعملات ذهبية رسوماً على السعر الفوري.

 

اشتروا ذهبًا: نصيحة من ملياردير أميركي

إضافة إلى ذلك قد تكون هناك أيضاً فروقات في الأسعار بحسب المناطق الجغرافية، إذ يستغل المتداولون فرص المراجحة هذه. وهذا ما حدث في وقت سابق من هذا العام عندما أدت المخاوف من احتمال فرض الرئيس ترامب رسوماً جمركية على واردات السبائك، الى دفع أسعار العقود الآجلة للذهب في بورصة كومكس بنيويورك، إلى مستويات أعلى بكثير من الأسعار الفورية في لندن، حيث كان هناك اندفاع عالمي بين مالكي المعدن المادي، لتحويله إلى الولايات المتحدة للاستفادة من العلاوة الكبيرة، وربما تحقيق مئات الملايين من الدولارات من الأرباح.

 

وبحسب تقرير "بلومبرغ" فقد توقفت تجارة المراجحة هذه فجأة في شهر أبريل، عندما أشارت إدارة ترامب إلى إعفاء السبائك من الرسوم الجمركية، ولكن القلق ساور السوق لفترة وجيزة مرة أخرى، بعد أن أعلنت هيئة الجمارك وحماية الحدود الأميركية في أغسطس، أن بعض سبائك الذهب ستخضع "للرسوم الجمركية المتبادلة"، إلا أن الرئيس ترامب تدخّل بنفسه ليقول إن الذهب لن يخضع لضرائب الاستيراد.

 

وعادةً ما يكون نقل الذهب سهلاً نسبياً، إذ يُخزّن في عنابر شحن الطائرات التجارية، دون علم المسافرين في رحلات العطلات ورجال الأعمال في المقصورة العلوية.

 

لماذا يعتبره البعض أصلاً عقيماً؟

وتقول الكاتبة والصحفية رلى راشد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن بعض المستثمرين كانوا يعتبرون الذهب "أصلاً عقيماً"، لأنه لا يولد دخلاً دورياً مثل الفوائد على السندات أو الأرباح على الأسهم، حيث أن هذا الرأي يعود أساساً إلى فلسفة الاستثمار القائم على العائد النقدي، فالذهب لا يدفع فوائد أو توزيعات أرباح، وبالتالي لا يدر دخلاً يمكن استخدامه أو إعادة استثماره بشكل مباشر، ومع ذلك فإن هذه النظرة لا تعكس الصورة كاملة، إذ أن المعدن الأصفر يتمتع عادة بدور استراتيجي آخر مهم يتمثل بتأمين الثروة ضد التضخم وتقلبات السوق والأزمات السياسية أو الاقتصادية، فالذهب يحافظ على قيمة الأموال ويعمل كأداة تحوط طويلة الأمد.

 

هل ينطبق وصف "عقيم" على الذهب حالياً؟

وترى راشد أنه مع ارتفاع أسعار الذهب هذا العام بأكثر من 45 في المئة، لم يعد وصفه بـ"الأصل العقيم" دقيقاً، لا سيما أن ارتفاعات عام 2025 تأتي بعد زيادة بلغت 27 في المئة في عام 2024، حيث تعكس هذه القفزات الكبيرة في الأسعار تحول الذهب من مجرد مخزن للقيمة إلى أداة استثمارية نشطة، مشيرة إلى أن العوامل التي دعمت صعود أسعار الذهب في 2025، تشمل توقعات خفض أسعار الفائدة، ضعف الدولار الأميركي، الطلب المؤسسي من البنوك المركزية، إضافة إلى الإقبال الكبير على صناديق المؤشرات المتداولة المدعومة بالذهب، علماً أن السرعة الحالية لارتفاع أسعار الذهب، تجاوزت كل التوقعات السابقة للخبراء والمصارف الكبيرة.

 

لماذا لا يكتفي المستثمرون من شراء الذهب؟

من جهته يقول المحلل الاقتصادي محمد سعد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن صعود الذهب في 2025 جاء أسرع من كل التوقعات السابقة، وهو أمر فاجأ حتى كبار المحللين والبنوك العالمية، والسبب الرئيسي في ما يحصل يكمن في تداخل عدة عوامل استثنائية، دفعت الطلب بشكل غير متوقع، أبرزها انخفاض الدولار الأميركي إلى أدنى مستوياته منذ سنوات، احتمال انخفاض الفائدة الأميركية بأكثر مما كان متوقعاً، الضغوط الجيوسياسية في العالم أجمع، إضافة إلى الضغوط التجارية، لافتاً إلى أن هذه التوليفة النادرة من العوامل التي اجتمعت في وقت واحد، جعلت النماذج الاقتصادية التقليدية غير قادرة على التنبؤ بالسرعة القياسية لصعود الأسعار، وهو ما يثبت أن الذهب لم يعد مجرد مخزن للقيمة، بل أضحى أداة استثمارية تتفاعل بشكل مباشر مع تحولات السوق.

 

ويرى سعد أن السبب وراء عدم اكتفاء المستثمرين من شراء الذهب، يعود إلى إعادة تقييمه كأداة استثمارية نشطة قادرة على تحقيق نمو في رأس المال، حيث أن المعدن الأصفر يوفر اليوم عوائد جيدة من المكاسب الناتجة عن الزيادة الحادة في الأسعار، وهو مسار يبدو أنه سيستمر في 2026، مدفوعاً بالعوامل الاقتصادية العالمية والمخاطر الجيوسياسية، وتحديداً تلك التي تحوم حول أوروبا وروسيا، إضافة إلى المخاطر المستمرة في منطقة الشرق الأوسط.

 

ويتوقع سعد أن يصل الذهب خلال عام 2026 إلى مستويات تتجاوز الـ 4500 دولار، خصوصاً إذا استمرت الهجمة الكبيرة على شراء المعدن الأصفر، من قبل المستثمرين والأفراد والمؤسسات من صناديق المؤشرات والبنوك المركزية، وقيام المركزي الأميركي بخفض مستويات الفائدة بأكثر من المتوقع.

Skynews