يشهد العالم سباقاً محموماً على التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي، تتداخل فيه التكنولوجيا مع الحسابات السياسية والجيوسياسية، لتتحول الرقائق الإلكترونية من مجرد أدوات تقنية إلى عناصر حاسمة في معادلة القوة العالمية، وهو السباق الذي يمزدج بين الابتكار والقدرة الإنتاجية، ويمتد إلى صميم الأمن القومي للدول الكبرى.
تتصاعد حدة التنافس بين الولايات المتحدة والصين على قيادة هذا القطاع، حيث تسعى كل قوة إلى فرض حضورها في السوق الدولية والتحكم في مفاتيح المستقبل الرقمي. وفي خضم هذا التنافس، تتحول الشركات التكنولوجية الكبرى إلى ساحات مواجهة غير مباشرة، تدور حولها صراعات النفوذ والسيطرة.
وتبرز في هذا السياق مكانة شركات الرقائق المتقدمة باعتبارها ركيزة أساسية في تدريب وتشغيل النماذج الضخمة، لتصبح منتجاتها في قلب المعادلات الاقتصادية والسياسية معاً. وبينما يشهد العالم توسعاً سريعاً في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، تتكشف ملامح صراع طويل الأمد لن يقتصر على الأسواق المحلية، بل سيمتد ليعيد تشكيل خريطة التكنولوجيا العالمية.
في هذا السياق، ينقل تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" عن الشريك في مجموعة DGA-Albright Stonebridge الاستشارية، بول تريولو، قوله:
"على مر السنين، كانت الصين سوقًا بالغة الأهمية لشركة إنفيديا، إذ استطاعت السيطرة عليها والتأثير عليها والتعاون معها".
"أصبحت إنفيديا جزءاً لا يتجزأ من منظومة البرمجيات والأجهزة في الصين بطرق لم تفعلها الشركات الغربية الأخرى".
"بينما اليوم، أصبح هذا التناغم مهدداً؛ فمع الانتشار الواسع لأنظمة الذكاء الاصطناعي، التي تُغير كل شيء، من تواصلنا وعملنا إلى طريقة خوضنا للحروب، أصبحت رقائق إنفيديا أداةً للمساومة في سياسات القوى العظمى. وتكمن أهميتها في أن معالجات إنفيديا تُدرج الآن على جدول أعمال المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب الرسوم الجمركية ومسألة الوصول إلى الأسواق".
نتيجةً لذلك، أصبحت الشركة هدفًا لتدقيقٍ مكثف. ترى واشنطن أن تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين يُشكل تهديدًا للأمن القومي، وحظرت تصدير أحدث أجهزة إنفيديا. في الوقت نفسه، أمرت بكين شركاتها بالتوقف عن شراء رقائق الذكاء الاصطناعي من إنفيديا، وتسريع انتقالها إلى البدائل المحلية.
ويشير التقرير إلى أنه بالنسبة للصين، تُعدّ عملية تقليل اعتمادها على وحدات معالجة الرسومات (GPUs) من إنفيديا محفوفة بالتعقيدات. لكن المحللين والمطلعين على الصناعة يعتقدون بأنه حتى مع هذه الصعوبات الأولية، فإن صناعة الذكاء الاصطناعي الصينية - وعلى رأسها عملاق التكنولوجيا هواوي - ستتحرر في النهاية من قبضة إنفيديا.
ووفق الشريك في مجموعة آسيا، جورج تشين، فإنه "مع انتقال الشركات الصينية إلى رقائق الذكاء الاصطناعي من هواوي، سيُنشأ نظام بيئي منافس متكامل مدعوم ببرمجيات الشركة وأجهزتها".
ويضيف: "قد يُهدد هذا مكانة إنفيديا، ليس فقط في الصين، بل عالمياً أيضاً، إذا بدأت هواوي وشركات صينية أخرى بتصدير تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها إلى الخارج".
ويستطرد: "إن هذه المعركة في نهاية المطاف لا تتعلق فقط بالفوز بالسوق الصينية، بل تتعلق أيضًا بالكفاح الطويل الأمد من أجل الهيمنة على الذكاء الاصطناعي".
صدارة مُهددة
يقول المستشار الأكاديمي بجامعة سان خوسيه، الدكتور أحمد بانافع، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن شركة إنفيديا الأميركية تحتل موقع الصدارة في سوق شرائح الذكاء الاصطناعي، إذ أصبحت وحدات المعالجة الرسومية الخاصة بها حجر الأساس في تدريب وتشغيل النماذج الضخمة التي تقود ثورة الذكاء الاصطناعي عالمياً. لكنه يوضح أن هذه الريادة تواجه تحدياً متزايداً من شركات صينية مدعومة بسياسات حكومية، تسعى إلى تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية في ظل توترات جيوسياسية متصاعدة.
ويؤكد بانافع أن بكين تعتبر قطاع أشباه الموصلات جزءاً من أمنها القومي، لذلك تستثمر مبالغ ضخمة في تطوير شرائح محلية قادرة على منافسة المنتجات الأميركية. ويضيف أن الصين أعلنت خططاً لزيادة إنتاج رقاقات الذكاء الاصطناعي بما يصل إلى ثلاثة أضعاف خلال السنوات المقبلة. ويتابع أن القيود الأميركية على تصدير الشرائح المتقدمة إلى الصين سرّعت هذا التوجه، إذ تحاول الحكومة تعويض الفجوة عبر دعم شركات مثل هواوي، علي بابا، وكامبريكون.
ويشير إلى أن السوق المحلية الضخمة تمنح الشركات الصينية مجالاً واسعاً لتطوير منتجاتها واختبارها في بيئة محمية نسبياً من المنافسة الخارجية، مضيفاً أن الحوافز الحكومية المالية والتنظيمية تخلق بيئة خصبة لنمو قطاع أشباه الموصلات. كما يوضح أن بعض الشركات الصينية عرضت شرائح بمواصفات قريبة من منتجات إنفيديا المخصصة للسوق الصيني، خاصة في تطبيقات الاستدلال.
ويؤكد الخبير التكنولوجي أن هذه الشركات ما زالت تواجه فجوات تقنية بارزة؛ أهمها التصنيع المتقدم لعقد 3 نانومتر وما دون، إضافة إلى استمرار اعتمادها على مكونات وتقنيات أجنبية خاضعة لقيود التصدير. كما يشير إلى أن إنفيديا تتمتع بتفوق برمجي عبر بيئة التطوير CUDA التي يعتمد عليها الباحثون والمطورون عالمياً، وهو عنصر يصعب تعويضه بسرعة. ويضيف أن الشركات الصينية تواجه كذلك صعوبة في اختراق الأسواق الغربية بسبب الاعتبارات السياسية وقضايا الثقة التقنية.
ويختتم بانافع حديثه قائلاً إن الصين مرشحة لتحقيق تقدم ملموس على المستوى المحلي، ما سيقلل من حصة إنفيديا في السوق الداخلية خلال السنوات المقبلة. لكنه يؤكد أن التفوق العالمي لإنفيديا سيستمر على الأرجح، خصوصاً في الشرائح عالية الأداء المستخدمة في تدريب النماذج الأضخم. ويرى أن السيناريو الأكثر احتمالاً هو تجزؤ السوق: حيث تحافظ إنفيديا على موقعها في الغرب وفي الشرائح الأكثر تقدماً، فيما تسيطر الشركات الصينية على السوق المحلية وبعض الأسواق المرتبطة بها.
عواقب
في سياق متصل، يشير تقرير لـ "نيوزويك" إلى شركة iFLYTEK الصينية لتطوير الذكاء الاصطناعي، والتي كانت تستخدم شرائح إنفيديا الأميركية لتدريب نموذج لغة كبير ينافس ChatGPT، لكنها تقول إنها تعمل الآن بشكل جيد بدونها.
بدأ العمل على البدائل عندما أدرجت وزارة التجارة الأمريكية شركة iFLYTEK في القائمة السوداء في عام 2019 خلال رئاسة الرئيس دونالد ترامب الأولى وقبل فرض قيود أوسع على تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً إلى الصين قبل ثلاث سنوات، وسط مخاوف على الأمن القومي الأميركي بشأن التقدم التكنولوجي من قبل أكبر منافس استراتيجي لأميركا.
وقال تشين تشنغ من شركة آيفليتيك خلال زيارة نظمتها وزارة الخارجية الصينية إلى هيفاي في مقاطعة آنهوي الشرقية وشركات أخرى في المركز الصناعي في دلتا نهر اليانغتسي: "لقد تغلبنا على هذه الصعوبة".
وينبه التقرير إلى أن: الطريقة التي طورت بها الشركات الصينية صناعة الرقائق المتقدمة الخاصة بها والبدائل المحلية لرقائق الذكاء الاصطناعي التي تنتجها شركة إنفيديا تسلط الضوء على التحدي الذي تواجهه محاولات الولايات المتحدة لاحتواء التقدم التجاري والتكنولوجي الصيني في السباق نحو الذكاء الاصطناعي المتفوق عالميًا وكذلك في كل شيء من المركبات الكهربائية والبطاريات إلى توليد الطاقة الشمسية والطائرات بدون طيار، مع عواقب حتمية على التوازن الاستراتيجي وكذلك على المنافسة التجارية العالمية بين الولايات المتحدة والصين.
وينقل التقرير عن الباحث المشارك في مركز الصين بجامعة أكسفورد، جورج ماجنوس، قوله: "هناك الكثير من المجالات حيث يمكن القول إن سياسة الاحتواء أعطت الصين في الواقع فرصة جديدة للحياة لإثبات أنها قادرة على الاستمرار في الطموح إلى كل الأشياء التي تطمح إليها، ولكن دون الاعتماد على الواردات الأجنبية والتكنولوجيا الأجنبية".
الصين تشن حرب على شركة إنفيديا الأميركية
حصة إنفيديا
من جانبه، يقول استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في شركة G&K، عاصم جلال، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
المنافسون الصينيون بدأوا بالفعل في الاستغناء عن إنفيديا بوتيرة مذهلة.
تبعا لذلك، انهارت الحصة السوقية للشركة الأميركية في الصين (..) في وقت سيطرت فيه الشركات المحلية مثل Huawei وMoore Threads وCambricon على السوق.
وفيما يشير إلى شحنات شحنت الشركات الصينية وحجم الطلبات القوي هذا العام، ينبه في الوقت نفسه إلى إعادة كبريات شركات التكنولوجيا الصينية مثل Tencent وByteDance وAlibaba بناء بنيتها التحتية للذكاء الاصطناعي بالكامل باستخدام معالجات محلية، في الوقت الذي أصدرت فيه السلطات الصينية أوامر رسمية في أغسطس 2025 تمنع الشراء من إنفيديا للأعمال الحساسة".
ويضيف:"هذا التحول ليس مجرد إحلال اقتصادي، بل هو تطوير استراتيجي شامل يعكس قدرة الصين على بناء نظام تقني مستقل. فقد كشفت شركة Huawei عن خارطة طريق تمتد حتى 2028 تتضمن معالجات Ascend 950 و960، والهدف منها تحقيق التكافؤ الكامل - بل وتجاوز- معالجات إنفيديا المتقدمة (..).
ويختتم حديثه قائلاً: "ما نشهده اليوم هو ولادة نظام تقني بديل يتم تصديره بالفعل إلى عشرات دول الجنوب العالمي، وهو ما يضع الهيمنة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي أمام تحدٍّ غير مسبوق".