<
27 September 2025
نهجك المقاوم باقٍ يلقف ما يصنعون

 

محمد رعد - رئيس كتلة الوفاء للمقاومة -

عامٌ مضى على شهادتك، والأعداء يترقبون حضورك على الدوام، وبين أيديهم وتحت تصرّفهم إمكاناتٌ هائلة، مالٌ وإعلامٌ وتقنيّةٌ ونفوذٌ وقدرةٌ عسكريّةٌ وسطوةٌ تلوي أذرعة دولٍ وحكّامٍ ومنظّماتٍ سياسيّةٍ وحقوقيّةٍ دوليّةٍ وما دون.
ورغم ذلك كلّه، نراك تصدُمُ بؤسهم ببأسِكَ المدوّي: صوتاً، مع صرخات أطفال غزّة وثباتِ أهلها ومواصلة عمليّات المقاومة ضدّ الغزاة المحتلّين والمعتدين، وفعلاً، مع تنامي إرادة الصمود والتحدّي ورفض شعبنا للخضوع.

ويُفجعهم حضورك الدائم صوتاً وصورةً، وموقفاً وتوجيهاً، وتعبئةً وتحريضاً ضدّ الظلم والاحتلال والعدوان، وحثّاً للناس على التمسّك بنهج المقاومة والتضحية والمواجهة، والصبر والنصر ورفض الضعف والخضوع والاستسلام، وشحذ الإرادات دوماً لتيئيس المعتدين من إمكانيّة تحقيق مرادهِم أو تثبيت ما قد يُمكن لهم مؤقتاً أن يُنجزوه.

ولأنّ الحرب مع الأعداء هي حرب إرادات، لا مجرّد تصادم تقنيّات وقدرات، فإنّ مخزون إرادة شعبنا المؤمن بالله عز وجلّ، هو أعظم بما لا يُقاس به، من إرادةٍ يمتلكها عدوٌ طامعٌ وفائقُ التسلّح. لكنّه جبان ضعيف الإرادة يستقوي بإمكاناتٍ تنفد ضدّ إرادة شعوبٍ موصولةٍ بالربِّ المطلق ومتوثّبةٍ بشجاعةٍ لنيل رضاه، ونصرة الحقّ والعدل، وهي عصيّةٌ على النفاد.

قد يكون التوازن بالإمكانات والقدرات التسليحيّة بيننا وبين أعدائنا أمراً صعباً في كثيرٍ من الحالات، وفي صراعاتنا بمعظمها لم يتحقق هذا التوازن ولا مرّة... لكنّ المعادل الذي يعطّل رجحان إمكانات العدو الماديّة كان دائماً هو منسوب الإرادة الفائض لدى شعبنا أو شعوبنا المظلومةِ المتحفّزةِ بإيمانها لرفع الحيف عن بلادها وأوضاعها.

وهذا المعادل التعويضي ليس مفصولاً عن شروط أخرى تتصل بحسن تقدير القيادة لموازين القوى، ومنسوب القدرات الماديّة المدّخرة والخطط البديلة الجاهزة، وعناصر وحجم الإمداد المفاجئين للعدو أثناء المواجهة.
فالمسألة إذاً، ليست غيبيّةً بالمطلق، وإنّما واقعيّة عمليّةٌ تستقوي إراديّاً وإيمانيّاً بالغيب الذي يفيضه الله سبحانه، ليثبِّت المؤمنين وليبعث الرعب وسوء التقدير لدى أعدائهم.

أهل الإيمان وحدهم هم من يمتلكون أهليّة التعامل مع هذا المُعادِل الغيبي الإيماني الذي يقيم التوازن المطلوب، ويرجِّح كفَّة المؤمنين المقاومين على كفَّة العدو تبعاً لحسن اعتمادهم هذا المعادل مع توفير الشروط الأخرى المطلوبة منهم والتي أشرنا إليها فيما سبق.
على هذا الأساس، لا يوجد في قاموس أهل الإيمان المقاومين شيء اسمه يأسٌ أو إحباطٌ أو استسلامٌ للأمر الواقع الظالم والمخزي. يوجد على الدوام تحفّزٌ لمراجعة مكامن الخلل ونقاط الضعف ومسارب تسلل العدو، من أجل تصحيحها وترميمها وإعادة التأهيل.

والقيادة الناجحة، هي تلك التي تحسن التقدير وتعتمد المعادلة المناسبة في مواجهة العدو وتراعي التكامل بين الإمكانات والقدرات من جهة وتوفِّرُ المقدّمات الضروريّة لتنزّلِ الإمداد الغيبي بلحاظ جهوزيّة مجموعة من الشروط المطلوبة أو غير الحاجبة على الأقل لتَنَزُّلِ رحمة الله ونصره على المؤمنين في تلك الموقعة وفي ذلك الظرف.

«فلمّا رأى الله صدقنا، أنزل علينا النصر وأنزل بعدوّنا الكبت». «وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (*) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [المراجعة الذاتيّة] وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(*)»

هذه المعادلة للنصر ثابتةٌ لا تتغيَّر ولا تتبدّل، وإنما الذي يتغيّر أو يتبدّل هو نِسَبُ توافر الشروط الواقعيّة الماديّة والمعنويّة، وكذلك مقدّمات وشروط التدخّل الغيبي أو احتجابه. وإنَّ مواصفات القيادة المشرِفة، هي من أهم الشروط الواقعيّة الماديّة لتحقيق النصر المنشود في المواجهة.
وبقناعتنا أنّ النصر من الله يتنزّل على المؤمنين كما يتنزّل الغيثُ على الأرض، فمقاديرُ التنزّل في الأمرين، لها شروط ومتطلّبات ينبغي أن تتحقق مقدّماتها واقعيّاً...
«وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ».

وشهيدنا الأسمى أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله شكّل المنسوب الوازن والعامل المكمِّل والمثقِّل لشروط النصرِ ومقدّماتِه وتنزُّله على المؤمنين والمظلومين والمعتدى عليهم في لبنان.
ومردّ ذلك إلى فرادةٍ جَمَعَت عدداً من الصفات النموذجيّة التي يندر اجتماعها في قائدٍ فرد.

فلقد بدا بوضوحٍ شخصيّةً قياديّةً مميّزةً ونادرةً في لبنان والعالم العربي والإسلامي، وظهر دوره جليّاً في رفع منسوب المقدّمات الواقعيّة المطلوب توافرها لِتَحَقُّقِ الانتصارات للمقاومة ضدّ العدو الصهيوني المحتلّ، جَمَعَ بين الإيمان والإخلاص وبين العلم والتفقّه والتحصيل الجاد والمعرفة للمستجدّات، وتمتَّع بذكاءٍ لافت وفطنةٍ في قراءة الواقع وتطوّراته يستندان إلى حضور ذهني متوقِّد وديناميكي، وإلى تفكير رؤيوي ومنهجي علمي في التخطيط وبرمجة الأولويّات والاهتمامات، إضافةً إلى إبداعٍ مذهل في إيجاد البدائل المناسبة واختيارها والقدرة على الإقناع واستخدام اللغة المعبّرة عن المقاصد والخافية في آنٍ لبعض المضمرات من التوقّعات والاستعدادات.

كلّ هذه المواصفات وفّرت لديه كاريزما قياديّة جاذبة واستثنائيّة مكَّنته من التصدّي للمستجدّات بكل ثقةٍ وإلمام بالاحتمالات.
وبهذه الكاريزما أمكن للأمين العام لحزب الله الشهيد الأسمى أن يعوِّض نقص المنسوب المتوافر لدى المقاومة من الإمكانات والقدرات ليتلاءم المستوى لديها، مع ما يُفترض أنّ العدو يمتلكُهُ في الضفّةِ الأخرى.

ومما لا شكّ فيه أنّ عبء الإدارة التفصيليّة والمتابعة التنظيميّة والتنفيذيّة الذي تحمَّله معه سماحة السيد الشهيد هاشم صفي الدين، قد وفّر له جانباً كبيراً يطمئن فيه سيّد المقاومة إلى حُسن الأداء ودقّة المقاربة وإتاحة المزيد من الوقت للانشغال بالأولويّات التي تفرض عليه متابعةً حثيثةً ومتواصلة.

تكامل الدورين، شجّع عليه تكامل وتقارب الطباع والمنهجيّة في ظلّ وحدة القناعة والانتماء والإحساس بعظيم المسؤوليّة، وقيام الإخوة الآخرين في منظومة القيادة بوظائفهم المحدّدة.
لقد كان السيد الهاشمي (رض) الحفيظ الأمين والعضد المعين والمُحِبَّ المخلص والناصح، وقناة التواصل الآمنة حين تضيق السبل وتنحصر الخيارات.

وسيُنصِف التاريخ هذا السيّد الطاهر الذي دائماً ما أحبَّ الظِّل وفضَّل العملَ الجادَّ الهادئ البعيد من الضوضاء وعاش الوداعة والمحبَّة للمؤمنين والمقاومين وعائلاتهم وعائلات الشهداء والجرحى والأسرى وفقاً لسيرة قائده السيد حسن رضوان الله عليهما.

في حرب الإسناد، جَهِدَ سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله لتعويض نقص قدرات المقاومة ماديّاً ومعنويّاً. إلا أنّ أمرين أساسيين مستجدَّين أثّرا سلباً في تلك الجهود:
أولهما: حجم الانخراط الغربي الدولي المباشر والسريع، لا سيما منه الأميركي، في الحرب جنباً إلى جنب مع كيان العدو الصهيوني الغاصب، ومن دون أي تحفّظ، وهو ما كان نادر الحصول فيما مضى، ولا يفسِّره إلا الخوف الحقيقي الجدّي على بقاء الكيان ودوره المرسوم له بهدف سيطرة الغرب المستكبر على المنطقة.

ثانياً: حجم التقدّم التقني ولا سيما السيبراني الذي حازه العدو أخيراً، ومكّنه مع انضمام إمكانات الغرب عموماً ومخزون دوله الاستخباريّة والمعلوماتيّة، وتيسير سبل العدو للاستفادة منها، أن يحقق انكشافاً كبيراً للمقاومة كان يصعب عمليّاً حجبه أو إخفاؤه عن العدو في تلك المدة.

هذان الأمران حاول الشهيد الأسمى أن يقلل من مخاطرهما قدر المستطاع، لكن حاكميّة المعادلة الموضوعيّة وسنّة الله في الوقائع والتاريخ، أقوى من أن تُردَّ أو تُتجاوز.

لقد استُشهِدَ سماحته وترك للمقاومة إرثاً جهاديّاً زاخراً يمكنّها بعون الله من ترميم أوضاعها وتصويب نقاط الخلل والثغرات التي انكشفت لديها أثناء المواجهة. وحمّلها مسؤوليّة المراجعة والامتثال لقوله تعالى: «وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [سيّما عند المراجعة] وإسرافنا في أمرنا».

أوّل مهمات المقاومة ومسؤولياتها اليوم بعد إكمال مراجعتها الدقيقة والشاملة. المسارعة إلى ترميم قدراتها على المستويات كافّة، وإعادة النظر في خططها لمواجهة العدو الصهيوني في ضوء ما نجم عن غزوته الأخيرة، وما أحدثته من مناخات سياسيّة وأمنيّة في لبنان والمنطقة والعمل بأقصى المستطاع على ردم الهوّة التي خلّفها استشهاد السيد الأسمى حسن نصر الله على المستوى التنظيمي والتعبوي والمعنوي والاستنهاضي ومعالجة تأثير ذلك في العلاقات السياسية مع الحلفاء والخصوم والأعداء، وإعادة التوازن المطلوب لمواصلة السير باتجاه إسقاط أهداف الكيان الصهيوني وإحباط مشروعه المتنمِّر في هذه المرحلة.

إنّ المقاومة الإسلاميّة التي تواصل اليوم تحمُّلها لمسؤوليّتها الجهاديّة بدأبٍ وسرعة، وتقوم بدورها المطلوب دوماً وبحكم الضرورة والمعطيات الواقعيّة في بلدٍ كلبنان، لن يمنعها عن أداء واجبها الوطني والإنساني كلُّ المعوّقات السلطويّة المشينة والمستجيبة لإملاءات العدوّ وحلفائه الداعمين لاعتداءاته، وهي إذ تنهض بهذا الدور فإنّها تمارس حقّها الإنساني والأخلاقي والدولي والحقوقي والدستوري والميثاقي خلافاً لكل الفذلكات والترّهات القاصرة التي ساقها المتورّطون لتبرير تنكّرهم لفضل المقاومة ولإنجازاتها، ولتجميل إذعانهم وقُبح فِعلتهم واستخفافهم بوجوب السعي بسرعة إلى ترميم القدرات الوطنيّة وتعزيزها في مواجهة العدو، ومسارعتهم المريبة إلى تقديم مراسم الخضوع والسقوط أمام إرادة العدو الصهيوني وطغيانه الذي ستنكسر شوكته حكماً وستلقَفُ عصا المقاومة كلّ أفاعي المعتدين والمسوّقين لمشاريعهم.

وبكل شجاعة وصراحة، ينبغي أن ندرك أنّ العدو الصهيوني إذ يستظلّ بحماية ودعم الإدارة الأميركية الطاغوتيّة، على كل المستويات، تجاوز مستوى الإحساس بالقدرة على غزو عواصم المنطقة وتأديب سلطاتها، إلى مرحلة الحرص المتنامي على مواصلة إذلال شعوبنا العربيّة والإسلاميّة حتى يصبح أكبر همّها الحصول على لقمة العيش بعد الإذعان والتسليم للعدو بسطوته الأمنيّة والعسكريّة وبقدرته على تقرير مصير المنطقة وبلدانها.

إسقاط هذا العلُوّ الذي يتملَّك اليوم الصهاينة المحتلّين، هو واجب كل الشرفاء والأحرار في منطقتنا والعالم... ومنطق التاريخ يؤكد أنّ التمادي في الاستعلاء هو أسرع سبيل نحو الارتطام بالهاوية.

ختاماً، يبقى التأكيد على أنّ ما يعزّز الثقة والأمل أيضاً هو يقينُ شعبنا وأبناء أمّتنا بحقوقهم المشروعة والتزامهم بالخيار المقاوم والمجدي في الدفاع عن أوطانهم وحماية سيادتها ضدّ كيد الأعداء الطامعين من جهة، ورفضهم الشاجب والمتصدّي لمقولات كل من ركِبَ مركب الخذلان والانهزام والتطاول على المقاومين والطعن بشرعيّة سلاحهم تملّقاً للعدو وأسياده وانصياعاً لإملاءات المطبِّعين والساعين إلى فرض وصايتهم على بلادنا وسياساتها.

الأخبار