لطالما كانت مراكز البيانات بمثابة العمود الفقري الخفي، لانتشار خدمة الإنترنت حول العالم، إلا أن الدور الذي تلعبه هذه المراكز اختلف في السنوات القليلة الأخيرة، لتنتقل من خلف الكواليس إلى صدارة المشهد الرقمي، بوصفها القلب النابض لثورة الذكاء الاصطناعي، وهو ما لفت أنظار مستثمري وول ستريت وجعلهم يراهنون على الاستثمار في هذا المجال.
فمن صناديق التحوّط وصناديق الاستثمار العقاري، إلى شركات الاستثمار الخاصة العملاقة، يضخّ المستثمرون مليارات الدولارات في استثمارات البنية التحتية الخاصة بمراكز البيانات، مراهنين على أن الطلب المتزايد على الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية ومعالجة البيانات، سيُحوّل هذه المراكز عالية التقنية، إلى واحد من أكثر القطاعات ربحية ونمواً في المستقبل القريب.
ما هي مراكز البيانات؟
وتعد مراكز البيانات "البطل المجهول" في طفرة الذكاء الاصطناعي، حيث أن تدريب وتشغيل نماذج اللغات الكبيرة مثل ChatGPT وGemini، يتطلب كميات هائلة من الأجهزة والأدوات التقنية والطاقة والمساحة، وهو ما توفره مراكز البيانات عبر بيئات متخصصة، تتيح تشغيل الخوارزميات العملاقة ومعالجة البيانات الضخمة بسرعة وكفاءة، مما يجعلها الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه تطور الذكاء الاصطناعي.
وفي وقت تتسابق فيه أمازون وغوغل ومايكروسوفت وOpenAI وغيرها الكثير من الشركات لزيادة سعة وتوسيع شبكة مراكز البيانات الخاصة بها بشكل استراتيجي، يرى المستثمرون أن هذه المراكز باتت أصول مدرّة للعائد على المدى الطويل نظراً لامتلاكها قاعدة عملاء قوية ومتنامية.
لماذا انجذبت وول ستريت؟
وأصبحت مراكز البيانات من أكثر الاستثمارات التقنية اهتماماً وجذباً لوول ستريت لثلاثة أسباب رئيسية هي:
الإيرادات المتكررة: يرى المستثمرون أن مراكز البيانات ستدر إيرادات متكررة ومستقرة، خصوصاً أن معظم الخدمات التي تقدمها هذه المراكز، تُؤجَّر لمزودي الخدمات السحابية والشركات الكبرى والمؤسسات التقنية التي تعتمد على الحوسبة السحابية، لتشغيل تطبيقاتها ومعالجة بياناتها، حيث يحصل هؤلاء العملاء على الخدمات التي توفّرها مراكز البيانات، بعد توقيع عقود استئجار طويلة الأجل بأسعار مرتفعة، وهذا ما يضمن لمشغلي المراكز تدفقاً نقدياً ثابتاً ويعزز من قيمة الاستثمار على المدى الطويل.
محدودية العرض: بناء مراكز البيانات الجديدة ليس بالأمر السهل أو السريع، إذ يتطلب ذلك استثمارات ضخمة في البنية التحتية والمعدات المتقدمة والطاقة والتبريد، وهذه العوامل تجعل العرض محدوداً نسبياً، وهو ما يزيد الطلب على المراكز القائمة ويعزز من قيمة توسعها أو تحديثها لتلبية احتياجات الشركات التي تتزايد بسرعة، خصوصاً مع النمو الهائل للذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية.
القيمة الاستراتيجية: الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية ليسا مجرد صيحات عابرة، بل هما أساساً لعصر جديد من الابتكار والنمو العالمي، ولذلك فإن الطلب على خدمات مراكز البيانات، سيظل في تصاعد مستمر.
البوصلة الجديدة لصحة التكنولوجيا
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، واطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن تريليونات الدولارات تتدفق إلى مراكز البيانات اللازمة لتشغيل الذكاء الاصطناعي، حيث تولي وول ستريت اهتماماً وثيقاً لهذا الأمر، كما أن سعة مراكز البيانات أصبحت مقياساً لصحة سوق التكنولوجيا، والدليل على ذلك حصل مؤخراً مع إنفيديا وأوراكل.
فسهم إنفيديا انخفض مؤخراً بنسبة 3 في المئة، وذلك بعد أن كشفت الشركة أنه رغم قوة إجمالي الإيرادات التي حققتها، إلا أن مبيعات معداتها لمراكز البيانات في الربع الأخير جاءت أقل من توقعات المحللين. وعلى النقيض من ذلك، شهدت أسهم شركة أوراكل ارتفاعاً حاداً بنسبة 43 في المئة الأسبوع الماضي، وهي أكبر قفزة يومية لها منذ أكثر من 30 عاماً، بعد إعلان الشركة عن موافقة OpenAI على شراء طاقة حوسبة منها بقيمة 300 مليار دولار.
ووفقاً لشركة ماكينزي، فإن الطلب على مراكز البيانات قد يتضاعف في الولايات المتحدة، بواقع ثلاث مرات بحلول عام 2030، مما يتطلب من مراكز البيانات استثمار ما يقرب من 7 تريليونات دولار لمواكبة هذا الطلب.
مخاطر جنون الإنفاق
ولكن هذا الجنون في الإنفاق، يصاحبه مخاطر عالية للتخلف عن السداد، فبحسب وكالة موديز، أصبح "التمويل الهيكلي"، وسيلة شائعة لتمويل مشاريع مراكز البيانات الجديدة، مع إصدار أكثر من 9 مليارات دولار في أسواق الأوراق المالية التجارية المدعومة بالرهن العقاري، والأوراق المالية المدعومة بالأصول خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025. وعلى سبيل المثال، استعانت ميتا بشركة إدارة السندات بيمكو لإصدار سندات بقيمة 26 مليار دولار لتمويل خططها لتوسيع مركز البيانات.
وتتركز المخاوف من احتمالية التخلف عن السداد، من جراء عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق العائد المالي المطلوب، فشركات التكنولوجيا الضخمة والممولة جيداً، مثل ميتا وألفابت، تمتلك سيولة كافية لتعويض الإنفاق على مراكز البيانات الخاصة بها، طالما أن الذكاء الاصطناعي يحقق أرباحاً، إلا أن هذا المسار غير مضمون، إذ من الصعب التكهن بكيفية تطور الأسواق في المستقبل، وهو ما يثير خشية البعض من أن تظل التكاليف أعلى دائماً من الأرباح المحتملة، الأمر الذي سينعكس أيضاً بشكل سلبي على الشركات التي تستأجر خدماتها من مراكز البيانات ما سيدفعها إلى إلغاء عقود الإيجار.
إضافة إلى ذلك، يجادل بعض المراقبين بجدوى بناء مراكز بيانات كبيرة، خصوصاً أن شركة التكنولوجيا الصينية ديب سيك، أثبتت أنه يمكن تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي بقوة حوسبة أقل، وهو ما يعني حتماً انخفاض الطلب على مراكز البيانات، مما سيزيد من صعوبة تحويل الاستثمارات في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي إلى أرباح.
الأصول الأثمن في العصر الرقمي
وتقول مستشارة الذكاء الاصطناعي المعتمدة من أوكسفورد هيلدا معلوف ملكي، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"،إن رهان وول ستريت الكبير على مراكز البيانات، هو شهادة على أننا تجاوزنا مرحلة "الإنترنت كشبكة" إلى مرحلة "الذكاء الاصطناعي كقوة إنتاجية"، فما نشهده اليوم ليس مجرد تضخيم لأهمية مراكز البيانات، بل هو تغيير في هويتها الاستثمارية، حيث أن هذه المراكز كانت في السابق مجرّد مجمعات تابعة لشركات التكنولوجيا، ولكنها أصبحت اليوم أصولاً عقارية رقمية مستقلة تُدر عائداً مستقراً، وهذا ما يجذب صناديق الاستثمار الخاصة والصناديق العقارية تحديداً، فالمستثمرون يرون أن مراكز البيانات هي "نفط" العصر الجديد والطلب عليها سيتضاعف ولن ينضب.
مصانع الذكاء
وتشرح معلوف ملكي أنه عندما تتوقع "ماكينزي" أن الطلب على مراكز البيانات، قد يتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2030 فهذا ليس مجرد تنبؤ، بل هو بمثابة ضمان لتدفق نقدي مستقبلي، إذ سيكون الطلب على مراكز البيانات مضموناً، كونه مرتبط بأربعة عوامل هي، الذكاء الاصطناعي التوليدي والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء (IoT) وطفرة البيانات الضخمة، فكل تفاعل رقمي مستقبلي وكل خوارزمية وكل نموذج ذكاء اصطناعي سيتطلب وجود قوة حوسبة، توفّرها مراكز البيانات التي باتت بمثابة مصانع "الذكاء" في هذا العصر.
هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟
وبحسب معلوف ملكي فإن وول ستريت ترى أن الفرص التي توفّرها استثمارات مراكز البيانات تفوق المخاطر، كونها تتيح إمكانية تحقيق عوائد مستدامة ولفترة طويلة من الزمن، مع ميزة تنافسية يصعب تقليدها بسبب صعوبة بناء مراكز جديدة، ولذلك فإن الرهان على استثمارات مراكز البيانات يستحق العناء، خصوصاً أن المستثمرين رأوا كيف أن شركة إنفيديا التي توفر البنية التحتية الأساسية لمراكز البيانات من خلال شرائحها، أصبحت الأعلى قيمة في العالم، وهم يأملون في أنّ يُطبّق هذا السيناريو على باقي الشركات التي توفّر البنية التحتية اللازمة لخدمات مراكز البيانات.
وول ستريت مفتونة بمراكز البيانات
من جهته يقول المحلل الاقتصادي محمد سعد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن إحدى النقاط الجوهرية التي يركز عليها المستثمرون في "وول ستريت"، هي الإيرادات المتكررة والطويلة الأجل الناتجة عن مراكز البيانات، فهذه المراكز لا تبيع خوارزميات بل تبيع سعة تأجيرية أو Leasing Capacity التي تمتد لسنوات طويلة بأسعار مرتفعة ومضمونة، ما يمنح المراكز تدفقاً نقدياً مستقراً يشبه إلى حد كبير تدفق إيرادات العقارات الممتازة، ولكن بمعدلات نمو تقنية هائلة، حيث أن التزاوج بين النمو المالي والنمو التقني المتوقع هو ما يجعل "وول ستريت" مفتونة بمراكز البيانات.
ويرى سعد أن الرهان على مراكز البيانات يظل مغرياً، لكنه يتطلب تقييم المخاطر بعناية، فلا يكفي النظر إلى الإمكانات المستقبلية للذكاء الاصطناعي وحدها، بل يجب احتساب التكاليف الضخمة والبنية التحتية المعقدة اللازمة، لضمان أن يصبح هذا الاستثمار أكثر من مجرد صفقة عابرة، مشدداً على أن المستثمر الذكي هو الذي يوازن بين إغراء العوائد، وبين مخاطر التضخم في تكاليف الإنشاء والتشغيل، إضافة إلى حاجز عدم اليقين، المرتبط بموعد وكيفية تحويل هذه الاستثمارات الضخمة إلى أرباح مستدامة، على المدى الطويل.