انتابت حالة من الارتباك العديد من الشركات الأميركية خلال اليومين الماضيين بعد إعلان إدارة الرئيس دونالد ترامب عن فرض رسوم على تأشيرات العمالة الماهرة، بما يفتح الباب أمام جدل واسع في أوساط الشركات الكبرى والاقتصاديين بشأن تداعيات القرار على مستقبل التوظيف والابتكار في الولايات المتحدة.
الخطوة التي جاءت بشكل مفاجئ أربكت مؤسسات التكنولوجيا والتمويل، وأثارت تساؤلات حول قدرة واشنطن على الاستمرار في اجتذاب الكفاءات من الخارج. كما أشعل القرار موجة من القلق داخل كبريات الشركات العالمية التي تعتمد على هذه التأشيرات في استقطاب العقول الهندسية والتقنية، لتأمين موقعها التنافسي في سوق عالمية سريعة التحول.
وبين تضارب التصريحات الرسمية حول نطاق تطبيق الرسوم وحالة الترقب في الأوساط الاقتصادية، بدا المشهد محاطاً بالغموض، وسط مخاوف من تحولات عميقة في استراتيجيات التوظيف والموارد البشرية، مع تزايد الضغوط على الشركات لإعادة النظر في خياراتها.
ياسين: ترامب لن يتراجع عن الرسوم الجمركية
اندفاع الشركات
وكان تقرير لصحيفة فايننشال تايمز قد أشار إلى اندفاع الشركات الأميركية لضمان عدم تكبّد آلاف الموظفين حول العالم لرسوم هجرة باهظة جديدة، بعد توقيع ترامب يوم الجمعة إعلاناً يفرض رسوماً قدرها 100 ألف دولار على طلبات الحصول على هذه التأشيرة.
ترامب لم يوضح ما إذا كان القرار سيشمل حاملي تأشيرات H-1B الحاليين أم لا.
المتحدثة الصحافية الصحافية في البيت الأبيض، كارولين ليفيت، من جانبها أشارت السبت إلى أن الرسوم الاستثنائية ستُفرض فقط على المتقدمين الجدد، ولن تشمل حاملي تأشيرات H-1B الحاليين أو من يجددونها، مضيفة أن هذه الرسوم لن تُطبق إلا في الدورة المقبلة.. وأضافت: "بإمكان حاملي تأشيرات H-1B مغادرة البلاد والعودة إليها بالقدر ذاته المعتاد سابقاً".
لكن تصريحاتها تبدو مختلفة عن تلك التي أدلى بها وزير التجارة هوارد لوتنيك يوم الجمعة، إذ قال إن الرسوم ستُفرض سنوياً.
وقال متحدث باسم البيت الأبيض إن هذه الخطوة تهدف إلى تشجيع الشركات على توظيف العمال الأميركيين.
وقد تمت الموافقة على نحو 400 ألف طلب لتأشيرة H-1B العام الماضي، كان معظمها لأشخاص يجددون تأشيراتهم.
وكانت شركات من بينها أمازون ومايكروسوفت، قد أصدرت تعليمات عاجلة لموظفيها، حثّت فيها حاملي التأشيرة على عدم مغادرة الولايات المتحدة حتى تتضح القواعد الجديدة، كما طلبت من الموظفين الموجودين خارج البلاد العودة قبل دخول الإجراءات حيّز التنفيذ يوم أمس.
وبحسب وزارة الأمن الداخلي الأميركية، فقد حصلت الشركتان على أكثر من 15 ألف تأشيرة H-1B خلال السنة المالية الأخيرة.
تأثيرات محتملة
وفي ظل حالة الارتباك الحالية بشأن التأشيرة وتطبيق الرسوم، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الرسوم التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تأشيرات H1B والتي تصل إلى 100 ألف دولار، قد يكون لها أثر مباشر على شركات التكنولوجيا والهندسة، وجميع القطاعات التي تحتاج إلى مهارات من الخارج، لافتاً إلى أن تلك الرسوم قد تُعتبر سلبية؛ لأن الاقتصاد الأميركي قائم بشكل كبير على الكفاءات المهاجرة التي ترى في الولايات المتحدة أرض الأحلام والفرص للمتفوقين.
ويضيف: "الشركات ستكون مضطرة لتحمل هذه الرسوم حال تطبيقها سنوياً إذا أرادت استقدام الكفاءات، وفي النهاية قد تنعكس هذه التكاليف على المستهلك، ما يعني ضغوطاً تضخمية طفيفة.. كما أن هذا القرار قد يحد من الابتكار والرؤية المستقبلية للشركات الأميركية، لأن الاستغناء عن المواهب الأجنبية سيؤثر سلباً في أدائها وقدرتها التنافسية".
ويشير يرق إلى أن "الرئيس ترامب يسعى من خلال هذه الخطوة لدعم الشركات والعمال الأميركيين بحيث يبقون في الصدارة، والنتيجة المباشرة هي استفادة الموظفين المحليين المهرة، حيث ستضطر الشركات لتعويض غياب العمالة الأجنبية برفع الأجور وتحسين ظروف العمل للمواطنين الأميركيين. هذا من شأنه أن يشجعهم على الإبداع والعمل بجدية أكبر لسد الفجوة التي قد يتركها غياب الكفاءات الوافدة".
ووفق فايننشال تايمز، يواجه أصحاب العمل في الولايات المتحدة فاتورة سنوية بقيمة 14 مليار دولار لتوظيف العمال الأجانب المهرة بعد فرض دونالد ترامب تلك الرسوم.
ضربة قوية
وأشار تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية، إلى أن هذه الخطوة قد تشكل ضربة قوية للشركات - وخاصة في قطاعي التكنولوجيا والتمويل- التي تعتمد بشكل كبير على المهاجرين ذوي المهارات العالية، وخاصة من الهند والصين.
أثار الإعلان موجة من الصدمة في بعض أكبر شركات التكنولوجيا والتمويل في البلاد.
تُمثل هذه الرسوم أشدّ خطوات الإدارة صرامةً حتى الآن لتقييد الهجرة.
منذ توليه منصبه في يناير، شنّ ترامب حملةً واسعةً على الدخول الشرعي وغير الشرعي إلى الولايات المتحدة، لكن إعلان يوم الجمعة يُمثّل أهمّ محاولةٍ لتضييق الخناق على تأشيرات العمل.
وأعربت وزارة الخارجية الهندية عن خشيتها من "العواقب الإنسانية" لهذا الإجراء "نظرا للاضطرابات" التي لحقت "بالعائلات"، و"أملت" أن "تعالجها السلطات الأميركية على النحو المناسب". وأكّدت أن انتقال المواهب أسهم في "التطور التكنولوجي والابتكار والنمو الاقتصادي" في كل من الهند والولايات المتحدة.
وأعربت الرابطة المهنية الرئيسية في الهند "ناسكوم" عن "قلقها" السبت من عواقب محتملة على "استمرارية" بعض المشاريع.
فيما شدّد وزير التجارة الأميركي هاورد لوتنيك على أن التدبير يرمي إلى "وقف استقدام أشخاص لأخذ وظائفنا".
وأوضح الجمعة أنه إذا وظفت شركات التكنولوجيا الكبرى عمالا أجانب "عليها دفع 100 ألف دولار للحكومة ثم دفع رواتب موظفيها، هذا ليس مربحا".
فوضى و ارتباك
من جانبه، يقول خبير أسواق المال، محمد سعيد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن "القرار المفاجئ بفرض رسوم تصل إلى 100 ألف دولار على تأشيرة العمالة الماهرة H-1B أحدث حالة من الفوضى والارتباك الشديد في أوساط شركات التكنولوجيا الكبرى.
ويضيف سعيد أن "الارتباك في اللحظات الأولى كان واضحا، خاصة مع تضارب الأنباء بشأن ما إذا كانت هذه الرسوم سنوية أم دفعة واحدة للطلبات الجديدة فقط، قبل أن تصدر توضيحات بشأنها بعد ذلك.. لكن حالة القلق الأولية دفعت الشركات لردود فعل سريعة".
ويشير إلى أن "عمالقة التكنولوجيا مثل أمازون ومايكروسوفت، وحتى بنوك كبرى مثل جي بي مورغان تشيس، لم تنتظر طويلا وأصدرت توجيهات عاجلة لموظفيها من حاملي هذه التأشيرة، والرسالة كانت واضحة: ضرورة البقاء داخل الولايات المتحدة أو العودة فورا لمن هم بالخارج، في محاولة لتأمين أوضاع الموظفين قبل دخول القواعد الجديدة حيز التنفيذ".
ويؤكد سعيد أن "القصة أعمق من مجرد رد فعل طارئ، فهذه الرسوم، ورغم ضخامتها بمئات الملايين من الدولارات لكل شركة سنويا، تمثل نسبة ضئيلة من إيرادات كيانات بحجم غوغل أو أمازون، لكن التأثير الحقيقي ينعكس على ميزانيات التوظيف واستراتيجيات الموارد البشرية، حيث قفزت تكلفة استقطاب مهندس واحد من الخارج بشكل غير مسبوق، وهو ما يجبر الشركات على إعادة التفكير في نماذج التوظيف التي اعتمدت عليها لعقود".
ويتابع قائلا: "على المدى الطويل تبدأ الشركات الكبرى ترسم خططا بديلة، من أبرزها نقل المزيد من الوظائف التقنية والهندسية عالية القيمة إلى الخارج، خاصة إلى مراكز تطوير في الهند وكندا وأوروبا، وهو توجه قد يخفف من عبء الرسوم المرتفعة لكنه يثير مخاوف بشأن تآكل الميزة التنافسية والابتكارية للولايات المتحدة كمركز عالمي للمواهب".