<
28 August 2025
كيف يؤثر إنهاء إعفاء "الشحنات الضئيلة" على التجارة العالمية؟

يمثل قرار إنهاء إعفاء "الشحنات الضئيلة" الذي وقّعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمثل نقطة تحول حاسمة في مسار التجارة العالمية. هذا الإعفاء، الذي سُمح من خلاله بدخول الشحنات التي تقل قيمتها عن 800 دولار إلى الولايات المتحدة دون رسوم جمركية، كان يُعد حجر الزاوية في سلاسل الإمداد للعديد من شركات التجارة الإلكترونية، وخاصة تلك التي تعتمد على البيع المباشر للمستهلكين.

وبينما كانت هذه السياسة التجارية تُيسر تدفق البضائع عبر الحدود وتُخفض التكاليف على الشركات والمستهلكين، فإن إنهاءها يُثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل التجارة الدولية. لقد دفع هذا القرار بالفعل بشركات بريدية أوروبية عملاقة إلى تعليق شحناتها مؤقتاً، في إشارة واضحة إلى أن أنظمتها الحالية غير مهيأة للتعامل مع هذا التحول.

وفي ظل هذه التطورات المتسارعة، يتجلى التساؤل: كيف يؤثر إنهاء إعفاء "الشحنات الضئيلة" من الرسوم على خارطة التجارة العالمية؟ والأهم من ذلك: هل يغير ترامب قواعد التجارة الدولية التي استمرت قرناً من الزمان بقرار واحد؟

تعتزم شركات البريد والنقل في جميع أنحاء أوروبا تعليق بعض الشحنات المتجهة إلى الولايات المتحدة، مع استعداد هذه الدول لإنهاء قاعدة تجارية قائمة منذ فترة طويلة، بحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.

وأوضح التقرير أنه من المقرر أن يتم تعليق شحنات معينة من ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا والسويد والدنمارك وفنلندا والنرويج وسويسرا مؤقتاً في الأيام والأسابيع القادمة، وذلك بعد أن وقع الرئيس دونالد ترامب أمراً تنفيذياً ينهي إعفاء "الشحنات الضئيلة" الذي استمر لقرن من الزمان.

وذكر أن هذه السياسة التجارية، التي يُشار إليها أحياناً باسم "الثغرة"، سمحت بدخول الشحنات التي تقل قيمتها عن 800 دولار إلى الولايات المتحدة معفاة تقريباً من الرسوم الجمركية. ومن المقرر أن تنتهي هذه الممارسة بالنسبة للواردات من جميع أنحاء العالم يوم الجمعة بعد صدور الأمر التنفيذي لترامب، مشيراً إلى أن إعفاء "الشحنات الضئيلة" للسلع القادمة من الصين وهونغ كونغ، التي شكلت لفترة طويلة الجزء الأكبر من هذه الشحنات، انتهى في شهر مايو الماضي.

وبين التقرير أن عمليات التعليق ستؤثر على الشحنات التي تقل قيمتها عن 800 دولار وتستثني بشكل كبير الهدايا والرسائل، حيث أعلنت معظم البلدان أنها اضطرت إلى تعليق الشحنات لأن أنظمتها لم يتم تصميمها لتلبية المتطلبات الجديدة، وأنها غير متأكدة من كيفية معالجة الشحنات بشكل صحيح بموجب القواعد الجديدة.

وقالت شركة الشحن الدولية الألمانية DHL في بيان: "إن البريد الألماني وDHL Parcel Germany لن يكونا قادرين على قبول ونقل الطرود المتجهة إلى الولايات المتحدة. وأضافت الشركة إن "أسئلة رئيسية لا تزال دون حل، لا سيما فيما يتعلق بكيفية تحصيل الرسوم الجمركية ومن سيقوم بتحصيلها في المستقبل، وما هي البيانات الإضافية المطلوبة، وكيفية نقل البيانات إلى الجمارك وحماية الحدود الأميركية".

تأثر الخدمات اللوجستية البريدية الدولية وتدفقات التجارة الإلكترونية

بدوره، قال مكتب البريد الوطني الإسباني Correos إنه اطلع على المتطلبات التفصيلية اللازمة للامتثال للأمر التنفيذي في 15 أغسطس، ولم يكن لديه الوقت الكافي لتغيير أنظمته.

وأضافت "Correos"، بالاشتراك مع جميع شركات البريد التي تدير الشحنات المتجهة إلى الولايات المتحدة، أن هذه "الوضع يجبرها على تعديل إجراءاتها بشكل كبير وزيادة ضوابط الشحن لتطبيق المتطلبات الجمركية الجديدة، مما يؤثر بشكل كبير على الخدمات اللوجستية البريدية الدولية وتدفقات التجارة الإلكترونية"، مضيفةً أن التعليق دخل حيز التنفيذ يوم 25 أغسطس وذكرت الشركة أنها تعمل على استئناف الشحنات "في أسرع وقت ممكن".

كما أعلنت هيئة البريد البلجيكية تعليق الشحنات ابتداءً من يوم السبت الماضي، بينما أعلنت هيئة البريد الفرنسية "لا بوست" تعليق الشحنات ابتداءً من يوم الاثنين الماضي. وفي الوقت نفسه، أوقفت هيئة البريد الفنلندية Posti قبول البضائع المتجهة إلى الولايات المتحدة يوم السبت، لكنها أضافت لاحقاً أنها لم تعد قادرة على قبول الهدايا أو الرسائل أيضاً لأن "عدة شركات طيران رفضت الآن نقل أي مواد بريدية إلى الولايات المتحدة".

وقالت شركات النقل إنها تتوقع أن يكون التعليق مؤقتاً. وقد يؤدي هذا التوقف المؤقت إلى تأخير بعض الشحنات، لكن من غير المتوقع أن يؤثر على معظم التجارة الدولية.

وبحسب تقرير الشبكة الأميركية، "لا يميل كبار تجار التجزئة، سواء المحليين أو الدوليين، إلى استخدام إعفاء "الحد الأدنى" بشكل متكرر، لأنهم يشحنون بضائعهم عبر حاويات إلى المستودعات الأميركية ويدفعون رسوماً جمركية عليها. وهناك استثناءان رئيسيان هما شركتا Temu وShein، اللتان روجتا لاستخدام "الحد الأدنى" واعتمدتا عليه في معظم شحناتهما إلى المستهلكين الأميركيين. ومنذ انتهاء العمل بإعفاء "الحد الأدنى" على البضائع المشحونة من الصين، انخفض الطلب على منتجات Shein وTemu مع ارتفاع الأسعار.

ومن المتوقع أن تؤثر الشحنات المعلقة على الطلبات الصغيرة من الأميركيين الذين يتسوقون مباشرة من الشركات الأوروبية الأصغر.

التداعيات على التجارة العالمية والمستهلكين

في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، قال الخبير الاقتصادي هاشم عقل، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية: "في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أنهى الرئيس الأميركي الإعفاء الجمركي للشحنات الضئيلة الذي كان يسمح بدخول البضائع ذات القيمة المنخفضة (أقل من 800 دولار) إلى الولايات المتحدة دون رسوم جمركية، بدأ القرار في مايو 2025 باستهداف الشحنات من الصين وهونغ كونغ، ثم يمتد اعتباراً من 29 أغسطس ليشمل جميع الدول، مما أثار موجة من التداعيات على التجارة العالمية والمستهلكين".

وأوضح والقرار، الذي نفذ عبر أوامر تنفيذية بموجب قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية، أدى إلى فرض رسوم جمركية كاملة ورسوم إدارية (80-200 دولار لكل شحنة في البداية) على الواردات الصغيرة، مما رفع أسعار السلع الاستهلاكية مثل الملابس والإلكترونيات بنسب تصل إلى 50 بالمئة. وفقاً لتقديرات اقتصادية، قد يكلف هذا الأميركيين 11-13 مليار دولار سنوياً، مع تأثير أكبر على الأسر ذات الدخل المنخفض.

التجارة الإلكترونية تواجه أزمة

وذكر عقل أن التجارة الإلكترونية، التي تعتمد بشدة على هذا الإعفاء، تواجه أزمة. في عام 2024، دخل أكثر من 1.3 مليار شحنة إلى الولايات المتحدة عبر هذا الإعفاء، 60 بالمئة منها من الصين، عبر منصات مثل Temu وShein. الآن، توقفت بعض خدمات البريد في أوروبا وآسيا عن الشحن إلى أميركا بسبب الإجراءات الجمركية الجديدة، مما تسبب في تراكم الطرود في مطارات مثل جون إف كينيدي. الشركات الصغيرة في كندا وبريطانيا، التي تعتمد على الصادرات إلى السوق الأميركية، تواجه خسائر كبيرة، مع مخاوف من تباطؤ التجارة العابرة للحدود بنسبة تصل إلى 70 بالمئة.

من جهة، يرى مؤيدو القرار أنه يحمي الصناعات الأميركية من المنافسة غير العادلة، خاصة في قطاعات النسيج والإلكترونيات، ويحد من تهريب المخدرات مثل الفنتانيل، الذي يُقدر أن 98 بالمئة من مضبوطاته تأتي عبر هذه الشحنات. لكن على الصعيد العالمي، يثير القرار مخاوف من ردود فعل تجارية، مثل فرض رسوم متبادلة من دول مثل الصين والاتحاد الأوروبي، مما قد يعمق التوترات ويبطئ النمو الاقتصادي، بحسب عقل، الذي أشار إلى أن الشركات بدأت بالبحث عن مسارات بديلة، مثل الشحن عبر المكسيك، مما يعقد سلاسل التوريد.

مستقبل التجارة في مهب الريح

ورداً على سؤال فيما إذا كان ترامب يغيّر قواعد التجارة العالمية قال الخبير الاقتصادي عقل: "على الرغم من الحديث عن تغيير قواعد التجارة التي استمرت قرنا، فإن إنهاء الإعفاء لا يعدل الاتفاقيات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، بل يغير السياسة الداخلية الأميركية التي بدأت مع قانون التعريفة لعام 1930 وتطورت في 2016. ومع ذلك، يُنظر إلى هذه الخطوة كجزء من نهج ترامب “أميركا أولاً”، مما يثير تساؤلات حول استدامتها، خاصة مع التحديات القانونية المتوقعة في المحاكم الأمريكية بشأن استخدام صلاحيات الطوارئ".

وأضاف: "ومع تصاعد التضخم وتغير أنماط الاستهلاك، يبقى السؤال: هل سيعزز هذا القرار الاقتصاد الأميركي أم سيؤدي إلى عزلة تجارية؟ الإجابة قد تحدد ملامح التجارة العالمية لسنوات قادمة".

إعادة هيكلة طرق التجارة الإلكترونية العالمية

من جانبه، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية: "نعم، إن إلغاء الإعفاء الجمركي المُسمى “الدي مينيميس” سيؤدي إلى إعادة هيكلة طرق التجارة الإلكترونية العالمية، وزيادة التكاليف على المستهلك الأميركي والشركات الأجنبية، لكنه لا يرقى إلى “إعادة كتابة” النظام التجاري الدولي، إنه أقرب إلى صدمة تكتيكية في مسار مستمر من السياسات الحمائية الأميركية، وربما سيفتح الباب أمام سلسلة من ردود الأفعال من الشركاء التجاريين في أوروبا وآسيا".

ستدخل الاسواق العالمية في 29 أغسطس 2025 في صدمة جديدة مع إلغاء الولايات المتحدة للإعفاء الجمركي والذي أدّى بالفعل إلى تعليق بعض شركات البريد الأوروبية والآسيوية شحناتها نحو أميركا، في خطوة تعكس حجم الارتباك في سلاسل التوريد الدولية. وما نتوقع ان نراه من أثر مباشر هو حالتين، الاولى زيادة التكاليف على المستهلك الأميركي وعلى الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على منصات مثل Etsy وeBay وShein. الحالة الثانية هي اضطراب لوجستي بسبب غياب آليات واضحة لتطبيق الرسوم الجديدة، ما يدفع مزيد من المشغلين إلى وقف الشحنات مؤقتاً، وفقاً للقمزي.

وأضاف: "ربما كان هناك توقع مسبق لكثير من شركات التجارة الإلكترونية وقاموا بالفعل بتحول استراتيجي مؤقت نحو التخزين المحلي داخل الولايات المتحدة لتفادي الرسوم والحفاظ على الأسعار لفترة أطول لتخفيف الصدمة على المشترين وشراء مزيد من الوقت للتفكير في استراتيجية جديدة للمستقبل".

ترامب يتعامل مع التجارة العالمية بمرجعية سياسية قصيرة النظر أكثر من كونها اقتصادية

وأشار القمزي إلى أن الإدارة الأميركية تبرّر هذا القرار بضرورات مكافحة تهريب الفنتانيل والبضائع المقلدة، لكن القراءة الاقتصادية تكشف أن الأمر يتجاوز الأمن القومي ليصل إلى إعادة صياغة العلاقة بين التجارة الإلكترونية والعجز التجاري الأميركي، وهذا بدوره يقودنا نحو التساؤل، هل نحن أمام انقلاب على قواعد التجارة الدولية؟.

ويجيب الخبير الاقتصادي القمزي على التساؤل بقوله: “بدأ نظام الإعفاء “الدي مينيميس” عام 1938 كآلية لتبسيط التجارة منخفضة القيمة، وتم رفع سقفه تدريجياً حتى 800 دولار في 2015. إلغاؤه اليوم لا يُعتبر انقلاباً جذريًا على قواعد التجارة الدولية، بل هو تعديل انتقائي ضمن أدوات السياسة التجارية الحديثة. لكن رمزية القرار قوية: فهي انعكاس لإصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب المستمر على كسر أعراف عمرها عقود، والتعامل مع التجارة العالمية بمرجعية سياسية قصيرة النظر أكثر من كونها اقتصادية.

 

 

Skynews