المدن- راغب ملي
لم يعد اللبنانيون يتفاجؤون كلما ظهر مقطع فيديو على مواقع التواصل يوثق لحظة خاصة لشخص ما، التُقطت من دون علمه.
المشهد يتكرر: كاميرات مراقبة في الشوارع، عدسات في المحال التجارية، وأحياناً حتى في المرافق الخاصة. التسجيلات تسرب، الصور تُنشر، ولا أحد يعرف كيف وكم من الوقت تخزن هذه المواد، أو من يحق له الوصول إليها. لا قوانين واضحة، ولا ضوابط ملزمة، ولا عقوبات رادعة، وكأن الخصوصية مجرد تفصيل صغير في حياة عامة مكشوفة للجميع.
على سبيل المثال، شهدت صيدا في نيسان/أبريل الماضي واقعة تختصر الفوضى. داخل أحد المقاهي في منطقة الجامعات، دخلت شابة إلى المرحاض النسائي لتلمح هاتفاً موضوعاً بطريقة مريبة، عدسته مفتوحة على وضعية تصوير الفيديو. تمالكت نفسها، تعاملت مع الموقف بحذر، وفي النهاية تدخلت القوى الأمنية وأوقفت المشتبه به. لم تكن هذه الحادثة الأولى، لكنها صورة مصغرة عن واقع يمكن أن يتكرر في أي مكان، وفي أي وقت.
وفي سياق المخاوف بشأن الخصوصية وانتهاكاتها، ومع تزايد استخدام الطائرات المسيرة (درون)، باتت هذه التقنية تُستعمل من قبل جهات رسمية وبلديات وأفراد، وكذلك من قبل الأجهزة الأمنية في المداهمات أو أعمال الملاحقة، إضافة إلى توظيفها في المناسبات العامة والأعراس والفعاليات، والتصوير فوق المنازل والمرافق الخاصة، ما يعرّض الناس لانتهاكات مباشرة لخصوصيتهم. كل ذلك يجري في غياب إطار قانوني شامل يحدد الخط الفاصل بين مقتضيات الأمن وتوظيف التقنية وحماية الحياة الخاصة.
أوضحت الأستاذة الجامعية والاختصاصية في القانون الجزائي عطاف قمر الدين، في حديث مع "المدن" أن الحق في الخصوصية منصوص عليه عالمياً في المادة 12 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" والمادة 17 من "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، لكن الدستور اللبناني لا يذكره صراحة، بل يكرسه ضمنياً عبر المادتين 8 و14، التزاماً بالمواثيق الدولية بموجب الفقرة "ب" من مقدمة الدستور.
وأوضحت قمر الدين أن حماية الصورة الشخصية، بوصفها جزءاً من الحق في الخصوصية، لا تحظى بنص جزائي واضح، وإن كانت بعض مواد قانون العقوبات تتناولها ضمناً، مثل "المادة 533" التي تتعلق بالصور الخادشة للحياء، إلى جانب مواد أخرى مرتبطة بإفشاء الأسرار "المادة 579"، والابتزاز التهديدي "المادة 650".
أما القانون الأقرب لحمايتها فهو القانون رقم 81/2018 لحماية البيانات ذات الطابع الشخصي، الذي يمنع جمع أو معالجة أي بيانات، بما في ذلك الصور، يمكن أن تكشف هوية الشخص من دون موافقته الصريحة، ويعاقب المخالفين بالغرامة والحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات أو بإحدى هاتين العقوبتين.
والخصوصية، بحسب قمر الدين، نسبية بحسب المكان. التصوير في الأماكن العامة ربما يكون مسموحاً إذا كان عرضياً وغير موجه لشخص بعينه، لكن إذا كان مقصوداً، يصبح انتهاكاً، خصوصاً في الأماكن العامة بالتخصيص مثل المساجد والمطاعم والمدارس، التي تتحول إلى أماكن خاصة خارج أوقات استقبال الجمهور.
وحتى في غياب نصوص جزائية صريحة، يمكن اللجوء إلى قضاء الأمور المستعجلة لوقف النشر أو حذف المحتوى، أو رفع دعوى مدنية استناداً للمادة 122 من قانون الموجبات والعقود للمطالبة بالتعويض عن الضرر غير المشروع.
وعندما يتعلق الأمر بالطائرات المسيرة، أكدت قمر الدين أن أي استخدام لطائرة مسيرة مزودة بكاميرا يحتاج إلى تصريح مسبق من الجيش اللبناني، يتضمن بيانات دقيقة عن الطائرة والكاميرا ومكان وزمان التصوير وهدفه، إضافة إلى مستندات هوية المشغل. الترخيص مقيّد بالشروط المحددة، وأي مخالفة قد تؤدي إلى سحب الترخيص، مصادرة الطائرة، والملاحقة الجزائية، خصوصاً إذا صورت أماكن حساسة أو خاصة، بموجب المادة 281 من قانون العقوبات (جرائم التجسس) أو القانون 81/2018.
من جهته، رسم الخبير في قضايا حوكمة الإنترنت والحقوق الرقمية وعضو لجنة البرامج في "مدرسة آسيا والباسيفيك لحوكمة الإنترنت" (APSIG) عبد الرحمن أبوطالب، صورة مختلفة في لبنان عن المشهد الأوروبي.
ففي بريطانيا، تخضع كاميرات المراقبة لـ"UK GDPR" وقانون حماية البيانات 2018 "DPA" وإرشادات "هيئة حماية البيانات" (ICO) ومدونة كاميرات المراقبة بموجب قانون حماية الحريات العام 2012. وفي الاتحاد الأوروبي، ينظم الأمر الـ"GDPR" وإرشادات مجلس حماية البيانات الأوروبي (EDPB) رقم 3/2019، التي تعتبر تسجيلات الفيديو بيانات شخصية وتفرض أسساً قانونية صارمة للمعالجة، مع سياسات دقيقة للتخزين والحذف.
وبموجب ذلك، يعتبر أي تسريب لمقاطع خاصة خرقاً للبيانات، ويجب إبلاغ الهيئة المختصة خلال 72 ساعة، وإخطار الأفراد إذا كان هناك خطر مرتفع. أما النشر لأغراض غير مرتبطة بالغرض الأصلي فيعد مخالفاً للقانون، ويعرّض الموظف للمسؤولية الجنائية بحسب المادة 170 من قانون "DPA 2018"، كما يحمّل المنشأة مسؤولية تنظيمية ومدنية.
أما بالنسبة للطائرات المسيرة، فتشترط القوانين في بريطانيا تسجيل المشغل أو المالك وفق وزن الطائرة، والالتزام بارتفاع 120 متراً ضمن خط الرؤية، مع حظر التحليق فوق الحشود أو تصوير غير المشاركين، بينما يضع الاتحاد الأوروبي عبر وكالة "EASA"ق واعد بموجب لائحتي 2019/947 و2019/945، تصنّف العمليات حسب المخاطر، وتفرض بعض الدول الأعضاء شروطاً إضافية. والتصوير غير المصرح به للأفعال الحميمية أو التجسس يعد جريمة قد تؤدي إلى الغرامة أو السجن، في ظل تشريعات بريطانية متقدمة ومشروع قانون جديد لتوسيع نطاق جرائم "الصور الحميمية".