<
12 August 2025
في سوريا.. فرع الخطيب يعذب شاباً مسيحياً ويجبره على حفظ القرآن! (المدن)

الساعة الثالثة فجراً… يتجوّل الشاب المنحدر من عائلة ناصيف بين أزقة القصاع وباب توما وبرج الروس. عادةٌ رافقته منذ مراهقته، إذ عشق شوارع دمشق ليلاً، حتى في ذروة الحرب، وأصوات القذائف والانفجارات تملأ الأفق. كانت المدينة، الغارقة في العتمة، تفرغ من أهلها مع اقتراب الخامسة مساءً، لكن ذلك لم يثنه عن ممارسة طقسه الليلي المعتاد، يسير وحيداً بين الحجارة العتيقة والظلال الطويلة، وكأن بينه وبين دمشق عهداً لا تقطعه حتى المدافع.

كان يستمع إلى الأغاني التي يحبها، يجوب الشوارع رغم قيظ الصيف ونقص البنزين، مستمتعاً بطقسه الليلي المعتاد. لكن هذه المتعة قُطعت فجأة عند حاجز قال إنه تابع للأمن العام؛ أوقفه عناصره وأنزلوه عنوة من سيارته، وبدأوا بتفتيشها. وجدوا زجاجتي مشروب كحولي كان قد اشتراهما قبل قليل، فانهالوا عليه بالضرب والإهانة. طلب منهم مصادرة الزجاجتين والاكتفاء بذلك، لكنهم عوضاً عن ذلك اقتادوه إلى فرع الخطيب. أُغلق الراديو، وصمتت الموسيقى، ليحل مكانها صوت العنف ولغة القهر.

 

فرع الخطيب

في قاموس نظام الأسد، كان "فرع الخطيب" واحداً من أكثر مراكز الاعتقال رعباً، يُدار من الفرع 251 التابع لمديرية المخابرات العامة. هناك، مورِس التعذيب المنهجي والممنهج، بما في ذلك الاغتصاب والعنف الجنسي، ما أسفر عن عدد كبير من الوفيات، وثّق بعضها بالصور المصور فريد المدهان. لاحقاً، بات الفرع يُعرف في أوساط السوريين باسم "فرع أسماء الأسد"، إذ كانت تودِع فيه كل التجار الذين يرفضون دفع الجزية لها.

واليوم، يعود الفرع بواجهة جديدة وأشخاص آخرين، لكن فعل التعذيب لم يتغير، رغم تنديد الحكومة الحالية بممارسات سابقتها. يروي الشاب لـ"المدن" كيف تعرض لضرب مبرح ترافقه شتائم طائفية ونعوت بالكفر، بينما كان يتناوب على ضربه رجال ملتحون. ومع استمرار التعذيب، دخل في حالة من الهذيان، قبل أن يستيقظ ليجد نفسه في فرع آخر لم يتمكن من التعرف عليه، تماماً كما لم يعد قادراً على التعرف على جسده الذي فقد الإحساس به من شدة الألم.

 رحلة الانتقال 

يروي الشاب لـ"المدن" أنه عاش بعدها رحلة قاسية من التعذيب والتنقّل بين الفروع الأمنية، دون أن يعرف أين هو أو إلى أين يُساق. وعلى الجانب الآخر، كانت عائلته تخوض سباقاً مع المجهول، تبذل المستحيل لمعرفة مكانه، خصوصاً بعد أن أخبرهم صديقه بأنه شاهد العناصر وهم يقتادونه.

وفي ساعة لم يتمكن الشاب من تحديدها، دخل عليه رجل طويل اللحية، طالباً منه أن ينطق الشهادتين وأن يحفظ ثلاث عشرة آية قرآنية، عليه أن يرددها يومياً قبل تنفيذ حكم الإعدام بحقه. 

وقع الطلب عليه كان كالصاعقة، فأدخله في حالة شبه انهيار عصبي، لم تمنع الرجل من تلاوة الآيات عليه وإجباره على تكرارها، مبرراً ذلك بأنها ستكون سبيله إلى الجنة التي "ستكون في انتظاره".

خمسة عشر يوماً من التعذيب والتنكيل، بأساليب جديدة "مبتكرة" تختلف عن طرق النظام القديم، كانت كافية لتحطيم جسده ونفسه. خلال هذه الفترة، تمكنت عائلته أخيراً من معرفة مكان احتجازه بعد بحث محموم. يقول شقيقه "م. ناصيف" لـ"المدن": "عشنا أياماً عصيبة قبل أن نعرف أين هو، لتبدأ بعدها رحلة المساومة لإخلاء سبيله… رحلة تشبه ابتزاز النظام القديم للعائلات لمعرفة مصير أبنائها. دفعنا 10 آلاف دولار فقط لرؤيته، ثم لجأنا إلى الكنيسة التي ساعدت في إخراجه".

ساعة واحدة فقط فصلت بين لحظة خروجه من المعتقل وبدء عملية تهريبه إلى بيروت، حيث نُقل لتلقي العلاج بعد أن أصبح يعاني من اضطراب نفسي شديد. هناك، عاش فترة من التعافي النسبي قبل أن تُقدَّم أوراقه إلى إحدى الدول الأوروبية على أمل منحه اللجوء، وبدء حياة جديدة بعيداً عن ذاكرة الزنازين وأصوات السياط.

 

تحذيرات الداخلية

يأتي هذا "الخطأ الفردي" بعد سلسلة من الأخطاء المشابهة التي تكررت في الآونة الأخيرة، من جرائم قتل وخطف وسرقة إلى إعدامات ميدانية، وهي حوادث أثارت حالة من القلق العام ودَفعت بوزارة الداخلية ــ وهي الجهة المسؤولة في الجمهورية العربية السورية عن الحفاظ على أمن الوطن والمواطنين ووضع وتنفيذ الاستراتيجيات الأمنية الكفيلة بصون أمن الفرد والمجتمع ــ إلى إصدار بيانات متكررة وتوضيحات للرأي العام حول ما يجري.

الوزارة أكدت في بياناتها أنها ستتخذ إجراءات صارمة لمحاسبة المخالفين للقوانين، لكن الشارع السوري، الذي أنهكته الحرب والانقسامات، لا يزال ينظر بريبة إلى هذه الوعود. فحال لسان كثيرين يردد اليوم: "ليست هذه الثورة التي خرجنا من أجلها"، في إشارة إلى الفجوة المتسعة بين تطلعات الناس في بدايات الحراك، وبين الواقع المليء بالفوضى والانفلات الأمني الذي يعيشونه اليوم.