<
07 August 2025
حياد سويسرا على المحك.. صدمة اقتصادية بسبب الرسوم الأميركية
بينما اعتادت سويسرا الحفاظ على حيادها السياسي والاقتصادي لعقود طويلة، جاءت خطوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية قياسية بنسبة 39 بالمئة لتقلب المعادلة رأساً على عقب. القرار المفاجئ وضع الاقتصاد السويسري، المعروف بانفتاحه واعتماده الكبير على الصادرات، في مرمى حرب تجارية غير متوقعة.
 
أثار هذا التطور صدمة في الأوساط السياسية والاقتصادية السويسرية التي اعتقدت أنها على وشك التوصل إلى صفقة تجارية مريحة مع واشنطن. لكن بدلاً من ذلك، وجدت برن نفسها أمام تحدٍّ حاد يهدد صناعاتها البارزة مثل الساعات والشوكولاتة والأدوية، ويعيد إلى الواجهة تساؤلات حول جدوى حيادها التقليدي في عالم مضطرب.
 
كشفت الرسوم الجديدة هشاشة العلاقات الاقتصادية بين الحلفاء، كما سلطت الضوء أيضاً على الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها الاقتصادات الصغيرة غير المنخرطة في التكتلات الكبرى. وبات على سويسرا الآن إعادة حساباتها سريعًا، سواء بالتفاوض على اتفاق جديد مع الولايات المتحدة أو بتغيير استراتيجيتها التجارية بالكامل لمواجهة واقع اقتصادي عالمي أكثر تقلباً.
 
صفعة ترامب
تحت عنوان "صفعة ترامب على الوجه" تضع سويسرا المحايدة في مرمى نيران الحرب التجارية"، يشير تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أن قادة الأعمال والسياسيين السويسريين يحاولون جاهدين فهم سبب الانهيار المفاجئ لعلاقتهم الوثيقة مع واشنطن.
 
 
في بلدٍ اشتهر بحياده ونظامه، اتسم رد فعل السويسريين بالصدمة والارتباك إزاء قرار ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 39 بالمئة، وهي رسوم أعلى من جميع الدول باستثناء ثلاث دول في الأمر التنفيذي الصادر الأسبوع الماضي ، وهي لاوس وميانمار وسوريا.
 
وتُعدّ سويسرا من الدول القليلة التي كانت رسومها الجمركية في الأول من أغسطس أعلى من تهديدات ترامب في "يوم التحرير" في أبريل.
 
وقد أدت هذه الخطوة إلى قلب شهور من المفاوضات رأساً على عقب، حيث كان المسؤولون السويسريون يعتقدون بأنهم على وشك التوصل إلى صفقة مواتية.
 
ونقل التقرير عن عضو المجلس التنفيذي لمنظمة الأعمال السويسرية "إيكونوميسويس"، يان أتيسلاندر، قوله: "سويسرا لا تُشكل تهديدًا للأمن القومي الأميركي.. شوكولاتة وساعاتنا لا تُهدد الصناعة الأميركية".
 
وقال شيربان توتو، مؤسس شركة إدارة الأصول "تين إيدجيز كابيتال" ومقرها جنيف: "نحن بلد صغير، ونعاني من ضعف شديد، وقد تعرضنا للإهانة. فجأةً، أصبح ثمن الاستقلال جليًا للناس".
 
تُهدد الضريبة المفروضة على سويسرا، والتي لا يزال من الممكن تعديلها حتى 7 أغسطس، بشل قطاعات رئيسية في اقتصاد الدولة الجبلية المعتمد على التصدير.
 
وتُعدّ الولايات المتحدة أكبر سوق تصدير لسويسرا لسلع تشمل الساعات والشوكولاتة والأدوية والأدوات الآلية. وهذا يُضع سويسرا في وضع غير مؤاتٍ مقارنةً بجيرانها في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وإيطاليا وفرنسا.
 
فشل المفاوضات الأخيرة
وغادرت الرئيسة السويسرية كارين كيلر سوتر واشنطن مساء الأربعاء خالية الوفاض بعد زيارة رُتب لها على عجل لتجنب فرض رسوم جمركية باهظة  على صادرات بلادها إلى الولايات المتحدة،  بحسب ما نقلته رويترز عن مصادر.
 
وقالت كيلر سوتر إنها عقدت "اجتماعا ممتازا" مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، لكن أحد المصادر أفاد بأنها لم تلتقِ بالرئيس دونالد ترامب أو أي من كبار مسؤوليه التجاريين.
 
وأضاف أن الرئيسة السويسرية كانت تسعى إلى رسوم جمركية 10 بالمئة، وهو ما رفضه المسؤولون الأميركيون، وقالوا إن معظم الدول تواجه رسوما أعلى بكثير، وإن خفض العجز التجاري الأميركي لا يزال هدف ترامب.
 
وأفاد مصدر سويسري مطلع بأن واشنطن قد تسعى إلى زيادة صادراتها من الطاقة والدفاع إلى سويسرا. وفي المقابل، يسعى السويسريون إلى خفض الرسوم على السلع التي تباع للولايات المتحدة، وهي مشتر رئيسي للساعات والآلات والشوكولاتة السويسرية.
 
مفاجأة الرسوم
من لندن، يقول الخبير الاقتصادي، أنور القاسم، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
 
من الواضح أن سويسرا فوجئت بارتفاع الرسوم التي فرضها الرئيس ترامب. والآن عليها -نظراً لحساسية اقتصادها - أن تكون منفتحة للتفاوض بشأن هذه الرسوم الجمركية الثقيلة.
 
إن نسبة هذه الرسوم البالغة 39 بالمئة قد تدفع الاقتصاد السويسري نحو الركود، إضافة إلى فقدان عشرات الآلاف من الوظائف.
 
تستطيع البلاد أن تحذو حذو أوروبا بزيادة واردات الغاز الطبيعي المسال الأميركي، أو تشجيع المزيد من الاستثمارات السويسرية في السوق الأميركية التي تُعَد أكبر سوق لصادرات سويسرا من الأدوية والساعات والسلع الفاخرة.
 
ويضيف: "في اعتقادي، سيتحتم الآن على البنك الوطني السويسري أن يخفض سعر الفائدة كإجراء وقائي كي يتجنب الاقتصاد الانكماش المتوقع".
 
ويشدد على أهمية أن تسابق سويسرا الزمن للوصول إلى اتفاق تجاري مُرضٍ مع الولايات المتحدة؛ لأن أي تأخير قد يُحدث أثراً كبيراً على الاقتصاد السويسري المعتمد على التصدير. وقد انعكس ذلك فوراً في الانخفاض الكبير لبورصتها والبورصات الأوروبية.
 
عرض أكثر جاذبية
 
ويشير تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن سويسرا تسارع لتقديم عرض "أكثر جاذبية" لترامب لخفض التعريفات الجمركية.
 
بعد أيام من القلق في سويسرا بشأن سبب استهداف الرئيس ترامب للبلاد بتعريفات جمركية باهظة، عقدت الحكومة السويسرية اجتماعا طارئا لمجلس الوزراء يوم الاثنين وأعلنت أنها ستقدم لواشنطن "عرضا أكثر جاذبية" لخفض الضريبة قبل أن تدخل حيز التنفيذ.
 
في الوقت نفسه، أعلنت الحكومة أنها تُعدّ تدابير لحماية الاقتصاد السويسري "في حال فقدان الوظائف بشكل مؤقت لا مفر منه نتيجةً للرسوم الجمركية الجديدة".
 
في حال عدم موافقة سويسرا على اتفاقية تجارية، ستُفرض على السلع السويسرية رسوم جمركية باهظة بنسبة 39 بالمئة في الولايات المتحدة اعتبارًا من 7 أغسطس.
 
صُدم السويسريون يوم الجمعة عندما حدد ترامب معدل الرسوم الجمركية على السلع القادمة من حليفهم الأوروبي القديم عند أحد أعلى المستويات في العالم.
 
أثار هذا الإعلان عطلة نهاية أسبوع محمومة من النقاشات والاتهامات المتبادلة حول كيفية خروج مكالمة هاتفية استمرت 20 دقيقة يوم الخميس بين ترامب والرئيسة السويسرية كارين كيلر-سوتر عن مسارها.
 
وقال وزير الاقتصاد السويسري جاي بارميلان في مقابلة على الإذاعة المحلية: "لم تكن لدينا أي إشارة حتى في الساعات الأخيرة قبل اتصال الرئيس بأن الأمر قد ينتهي بهذه الطريقة، وفوق كل ذلك، لم يكن لدينا أي إشارة إلى أننا سنتعرض لمثل هذه العقوبة".
 
ما مصير الحياد السويسري؟
من جانبه، يقول مستشار المركز العربي للدراسات، أبو بكر الديب، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
 
سويسرا لطالما احتفظت بصورة الدولة المحايدة البعيدة عن التوترات السياسية والعسكرية، لكنها تجد نفسها اليوم وسط دوامة من الاضطرابات التجارية التي أثارها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
 
رغم بعدها الجغرافي والسياسي عن مراكز النزاع، فإن تحركات ترامب الأخيرة وتصريحاته المثيرة حول التجارة العالمية أوقعت النظام السويسري في مرمى النيران الاقتصادية، وأجبرته على إعادة تقييم موقعه بين القوى الكبرى.
 
منذ إعلان ترامب نيته فرض رسوم جمركية على واردات أوروبية، شملت منتجات دقيقة مثل الساعات والأدوية والسلع الفاخرة، بدأت سويسرا تدرك أن حيادها السياسي لا يعفيها من تبعات الحروب التجارية.
 
رغم أن البلاد ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، فإن ارتباطها باتفاقيات تجارية وثيقة مع التكتل يجعلها عرضة لتأثير أي عقوبات متبادلة بين بروكسل وواشنطن.
 
ويضيف: الضربة التي أقلقت برن فعلاً لم تكن اقتصادية بحتة، بل جاءت بشكل غير مباشر عندما أدرج ترامب في تصريحاته سويسرا ضمن ما وصفه بـ"الأنظمة النقدية المتلاعبة"، في إشارة إلى السياسات التي تتبعها البنوك المركزية لضبط سعر الصرف. ورغم أن هذه الاتهامات لم تتبع بإجراءات مباشرة، فإنها كانت كافية لإثارة الشكوك حول نية الإدارة الأميركية في إعادة ترتيب الأوراق المالية العالمية، على نحو قد يهدد النموذج السويسري القائم على الاستقرار والسرية المصرفية والثقة الدولية.
 
ويعتقد بأنه في ظل هذه الضغوط، لم تعد سويسرا قادرة على التمسك التام بحيادها الاقتصادي. فهي مطالبة اليوم باتخاذ مواقف أوضح تجاه ممارسات واشنطن، خصوصاً إذا ما استمرت الإدارة الأميركية في الضغط على البنوك السويسرية للكشف عن حسابات الأثرياء أو في فرض قيود على تصدير المنتجات التكنولوجية الدقيقة. كما باتت الشراكات القائمة مع الصين، ثاني أهم شريك تجاري لسويسرا، محلاً للتدقيق الأميركي، خاصة مع تصاعد المواجهة الاقتصادية بين واشنطن وبكين.
 
وبذلك كشفت صفعة ترامب هشاشة الحياد الاقتصادي في عالم مترابط. فسوء الاصطفاف السياسي لم يعد ضمانة للحماية من الأزمات، بل قد يتحول إلى عبء عندما يصبح الصمت مرادفاً للضعف في نظر اللاعبين الكبار. وسويسرا، التي بنت عقوداً من ازدهارها على تجنب الاصطفاف السياسي والاعتماد على الانفتاح التجاري، تجد نفسها اليوم مجبرة على مراجعة أسس هذه المعادلة، وفق الديب.
 
وفي مواجهة هذا الوضع، بدأت الحكومة السويسرية تتحرك بحذر لإعادة صياغة استراتيجيتها التجارية عبر توسيع شبكاتها الثنائية والانفتاح على تكتلات جديدة خارج المعسكرين التقليديين. كما تحاول تعزيز مكانتها كمركز ابتكار وتكنولوجيا لا يمكن الاستغناء عنه، بدلاً من الاكتفاء بدورها المصرفي التقليدي.
 
في المقابل، هناك من يرى أن الضغوط الأميركية قد تدفع سويسرا إلى خيارات أكثر جرأة، مثل التقارب مع الاتحاد الأوروبي في مواقف موحدة أو حتى مراجعة بعض أسس حيادها التاريخي، بما يتناسب مع طبيعة التحديات الجديدة. فالعالم يتغير بوتيرة لا تسمح بالبقاء في المنطقة الرمادية، والسوق لم تعد تفصل بين السياسة والاقتصاد.
 
أما في الداخل السويسري، فقد بدأت النخب الاقتصادية تدق ناقوس الخطر من احتمال فقدان البلاد ميزتها التنافسية إذا استمرت السياسات العالمية في معاقبة الدول الصغيرة غير المنخرطة بشكل مباشر في التكتلات الكبرى. ويبدو أن النقاش حول الحياد لم يعد مجرد مسألة سياسية بل أصبح قضية وجود اقتصادي، خاصة مع تزايد التهديدات الرقمية والتجارية العابرة للحدود.
Skynews