في خطاب العرش الأخير، رسم العاهل المغربي الملك محمد السادس معالم خارطة طريق اقتصادية واجتماعية للمرحلة المقبلة، واضعًا قطاع الصناعة في صلب أولويات النمو ومحدّدات التموقع الاستراتيجي للمملكة في السوق العالمية.
التوجيهات الملكية لم تقتصر على إطلاق مشاريع تنموية أو تعزيز الاستثمار المحلي فحسب، بل أعادت التأكيد على الرهان الإستراتيجي طويل المدى على القطاع الصناعي، الذي تحوّل إلى قاطرة حقيقية للنمو ومصدر رئيسي للعملة الصعبة وفرص العمل، مع طموحات اندماج إقليمي ودولي متصاعدة.
تشير الأرقام الرسمية إلى أن الصناعة تشكل 24 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل حوالي 37 مليار دولار، وتوفر فرص عمل لحوالي مليون مغربي. أما في مجال صناعة السيارات، فقد بلغت الإيرادات لعام 2024 حوالي 17 مليار دولار، مع إنتاج سيارتين كل دقيقة، وهو ما يجعل المغرب في مصاف الدول المصنعة الرائدة في المنطقة، خاصة مع ارتفاع نسبة الاندماج المحلي إلى أكثر من 70 بالمئة.
وفي قطاع الطيران، الذي غالبًا ما يُغفل في النقاشات الاقتصادية، نجح المغرب في التموقع ضمن أكبر 20 دولة مصنّعة لأجزاء الطائرات في العالم، محققًا إيرادات سنوية قاربت 3 مليارات دولار في 2024، وهي قفزة نوعية عززت صورة المغرب كمزوّد استراتيجي في سلاسل الإمداد العالمية.
الفوسفات.. كنز استراتيجي على المستوى العالمي
يُعد المغرب من أكبر منتجي الفوسفات عالميًا، بإنتاج سنوي يبلغ 50 مليار طن، تقدّر قيمته السوقية بأكثر من 7.5 تريليون دولار حسب الأسعار الحالية، فيما بلغت الإيرادات المحققة من القطاع 9.5 مليار دولار خلال عام 2024. وتبرز هذه الأرقام كمؤشر على أهمية هذا المورد الاستراتيجي في هيكلة ميزان المدفوعات المغربي، وخاصة في ظل تنامي الطلب الدولي على الأسمدة والمعادن.
وفي تعليقه على الخطاب الملكي، قال د. زكريا فيرانو، أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس، في حديثه لبرنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، إن الخطاب أتى في سياق تراكمي يعكس استمرارية في التوجهات الاقتصادية التي بدأت منذ عام 1999.
وأضاف: "الاختيارات التي بدأت قبل 26 سنة، من التنويع الاقتصادي وبناء ثلاث ركائز أساسية (الفلاحة – الصناعة – الخدمات)، أعطت اليوم ثمارًا واضحة"، مشيرًا إلى أن نسبة نمو الاقتصاد غير الفلاحي فاقت 4.8 بالمئة، وهي أعلى من المتوسط العالمي.
كما أشار فيرانو إلى أن المغرب لا يراهن فقط على جلب العملة الصعبة، بل يسعى إلى رفع نسبة التصنيع المحلي، خصوصًا في قطاع السيارات، "الذي بات قريبًا من أن يكون صناعة مغربية خالصة".
الصناعات التحويلية والدوائية والطاقات المتجددة ضمن الأولويات
لا تقتصر الآفاق الصناعية المغربية على الفوسفات والسيارات والطيران فقط، بل تمتد أيضًا إلى الصناعات الغذائية والنسيجية والإلكترونيات، إضافة إلى الصناعات الدوائية وصناعة الأسلحة، في توجه بدأ يتبلور منذ عام 2004، بحسب فيرانو، ويُعد حاليًا من أبرز أوراق المغرب في تعزيز موقعه الجيو–اقتصادي على مستوى القارة الإفريقية والعالم العربي.
كما باتت الطاقة المتجددة حاضرة بقوة في المنظومة الصناعية الجديدة، مع تزايد الاستثمارات في مشاريع الطاقة الشمسية والريحية، بما يعزز من طموحات الرباط في تقليص التبعية الطاقية وقيادة التحول الأخضر في إفريقيا.
رغم هذا الزخم الصناعي اللافت، لم يُغفل الخطاب الملكي التحديات المرتبطة بالفوارق المجالية، إذ دعا الملك محمد السادس إلى إطلاق جيل جديد من السياسات الاقتصادية ذات بُعد ترابي واضح، يضمن توجيه التنمية نحو المناطق القروية والجبلية، وليس فقط المراكز الحضرية الكبرى.
وفي هذا الإطار، شدد د. فيرانو على أن "المشكلة ليست مغربية فقط، بل عالمية، لكن المطلوب اليوم هو دمقرطة التنمية بحيث يستفيد منها كل مغربي، أينما كان، لأن البنية التحتية المتطورة في الدار البيضاء أو الرباط لا تعني شيئًا إذا لم تُرافقها تنمية مماثلة في الأطلس أو الجنوب أو المناطق الحدودية".
مغرب صناعي جديد بثقافة تنموية عادلة
رؤية المغرب المستقبلية كما وردت في خطاب العرش، مدعومة بالأرقام والتوجيهات السامية، توضح أن الصناعة لم تعد مجرد قطاع اقتصادي، بل تحولت إلى حامل لهوية اقتصادية وطنية جديدة، تعزز من الاستقلال المالي وتوسّع من شبكات التبادل الدولي.
لكن الرهان الحقيقي، كما أشار الملك، يبقى في دمج هذه الطفرة الصناعية ضمن سياسات شاملة تُعطي لكل جهة في المغرب نصيبها العادل من التنمية، لتكتمل معادلة النمو الاقتصادي بعدالة اجتماعية ومجالية تليق بطموحات المملكة.