يعيش الاقتصاد الأميركي لحظة مفصلية وسط تحديات عالمية معقدة، تتصدرها تقلبات الأسواق وتأرجح معدلات التضخم ومخاطر تباطؤ النمو. ورغم موجة القلق التي اجتاحت المستثمرين خلال الأشهر الماضية، تتباين التقديرات بشأن قدرة أكبر اقتصاد في العالم على تجنب أسوأ السيناريوهات التي يخشاها الجميع.
مع انحسار بعض الضغوط الاقتصادية وظهور مؤشرات على صمود سوق العمل، تتجه الأنظار إلى البيانات المقبلة لاختبار قوة التعافي ومتانة الأسس التي يقوم عليها النمو. كما تترقب الأسواق سياسات الاحتياطي الفيدرالي والقرارات الحكومية التي قد تحدد شكل المسار الاقتصادي خلال النصف الثاني من العام.
ورغم استمرار المخاطر التي تحيط بالمشهد الاقتصادي العالمي، يسود قدر من التفاؤل الحذر بإمكانية تجاوز المرحلة الصعبة، مع وجود فرص تدعم النمو وتهدئ من مخاوف حدوث صدمة مزدوجة تجمع بين التضخم والركود.
في السياق، يشير تقرير لـ "بيزنس إنسايدر" إلى أن:
الاقتصاد الأميركي نجح في تجنب النتيجة المروعة التي حذر منها العديد من المراقبين قبل بضعة أشهر فقط.
وهذا وفقاً لمحللين في بنك أوف أميركا، الذين قالوا إنهم يعتقدون بأن الاقتصاد الأميركي قد يكون على المسار الصحيح نحو طفرة دورية بدلاً من حلقة من الركود التضخمي ، وهو وضع كابوسي حيث يرتفع التضخم بينما يتباطأ النمو الاقتصادي.
من المعتقد بشكل عام أن الركود التضخمي أسوأ من الركود النموذجي، حيث يُمنع صناع السياسات من خفض أسعار الفائدة لتعزيز الاقتصاد، بحسب التقرير.
لفترة من الوقت، كان هذا السيناريو أحد أكبر المخاوف في أذهان المستثمرين وهم يزنون تأثير الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب في "يوم التحرير"، لكن محللو البنك قالوا إنهم يعتقدون بأن الاقتصاد يتجه الآن بعيدا عن مثل هذا الوضع، حتى مع قول العديد من مديري صناديق الاستثمار العالمية الذين استطلع البنك آراءهم في يونيو إنهم يعتقدون بأن الاقتصاد العالمي سوف ينزلق إلى الركود التضخمي خلال الأشهر الاثني عشر المقبلة.
ويحدد التقرير ثلاثة أسباب تجعل البنك يرى أن خطر الركود التضخمي يتضاءل، وهي:
أجندة ترامب الداعمة للنمو.
الإنفاق الكبير (على الذكاء الاصطناعي والبنية الأساسية والتصنيع).
نمط الانتعاش الاقتصادي (مؤشر النظام الاقتصادي الأميركي لبنك أوف أميركا، الذي يقيس الوضع الحالي للولايات المتحدة في دورة الأعمال ، يبدو "على وشك" التعافي الاقتصادي).
في انتظار البيانات
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق لموقع "اقتصاد سكاي نيوزعربية":
بدأنا الآن نترقب البيانات الاقتصادية القادمة لنفهم ما إذا كان الاقتصاد الأميركي قد تجاوز بالفعل شبح الركود التضخمي أم لا.
نحن نتوقع أن يسجل النمو في الربع الثاني من العام نحو 2.4 بالمئة، مما يشير إلى وجود زخم اقتصادي، في حين نتوقع أن يسجل التضخم ما بين 2.7 بالمئة إلى 2.8 بالمئة.
لكن الأنظار تتجه الآن نحو أداء الاقتصاد في الربع الثالث، حيث سيكون حاسمًا في تأكيد الاتجاه.
من جهة أخرى، من المرتقب انتهاء مهلة الرسوم الجمركية التي حددها الرئيس دونالد ترامب مع بداية أغسطس، مما قد يشكّل ضغطًا على معدلات التضخم، ولكنه أيضًا قد يؤثر سلبًا على وتيرة النمو.
ويضيف: "الأرقام الاقتصادية ستكون الفيصل، إذ أننا بدأنا نخرج تدريجياً من تأثيرات الركود في النصف الأول، لكن النمو لا يزال بطيئاً، والتضخم يبقى عنيداً ومقاوماً لمحاولات كبحه من قبل الاحتياطي الفيدرالي، الذي يستهدف معدلات عند 2 بالمئة أو 2.5 بالمئة".
ويتابع: نراقب عن كثب رؤية الفيدرالي الأميركي، وكيف سيُقيّم التضخم وخططه للتعامل معه.. في ظل هذا الوضع، نلاحظ أن جميع البنوك الاستثمارية، وحتى الفيدرالي نفسه، باتت تتعامل مع هذا الملف بحذر شديد. لذا فإن أرقام النمو والتضخم القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كنا قد تجاوزنا شبح الركود التضخمي بالكامل أم لا".
تفاؤل
وعلى الرغم من الاضطرابات التي شهدها النصف الأول من العام، لا يزال الكثيرون يتبنون توقعات إيجابية، من بينهم الفريق الاقتصادي في شركة بايدن آند ريغل، الذي يبدو متفائلاً بحذر بشأن الاقتصاد الأميركي.
في تقريرها الصادر حديثًا عن توقعات الاقتصاد الكلي لمنتصف العام ، تتوقع الشركة استمرار النمو، واعتدال التضخم، واحتمال استئناف مجلس الاحتياطي الفيدرالي تخفيضات أسعار الفائدة قبل نهاية العام، وفق تقرير لـ "غلوبال نيوز واير".
شهدت الأسواق تراجعاً في وقت سابق من هذا العام عقب جولة غير متوقعة من الرسوم الجمركية في أبريل، وتزايد المخاوف من الركود. ولكن مع تباطؤ التضخم واستقرار نمو الوظائف، ترى الشركة أن هناك مجالًا لهبوط أكثر سلاسة مما تشير إليه العديد من العناوين الرئيسية.
ووفق كبير الاقتصاديين في بايدن آند ريغل، جيفري كليفلاند، فإن:
"الأسواق بالغت في رد فعلها على صدمة الرسوم الجمركية في أبريل، لكننا نعتقد بأن البيانات لا تزال تدعم خفض أسعار الفائدة واستقرار النمو".
"إذا استمر التضخم في التباطؤ، أو ارتفعت البطالة بشكل طفيف، نتوقع أن يتخذ الاحتياطي الفيدرالي إجراءً".
المخاطر
من جانبه، يوضح ، رئيس قسم الأسواق المالية في شركة إف إكس برو، ميشال صليبي، لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية، أن المخاطر المرتبطة بحدوث ركود تضخمي قد تراجعت نسبياً، إلا أنها لا تزال قائمة ولو بوزن أقل، في ظل مؤشرات متباينة تشي بإمكانية استمرار هذا الخطر.
ويضيف: نسبة كبيرة من المصارف الاستثمارية الكبرى ترجّح احتمال دخول الاقتصاد في ركود يتراوح بين 40 إلى 50 بالمئة خلال الأشهر المقبلة، نتيجة الضغوط الناتجة عن صدمات الرسوم الجمركية، وهو ما قد يُبقي سيناريو "الركود التضخمي" مطروحاً على الطاولة.
كما يوضح أن هذه التوقعات تختلف من مصرف إلى آخر، بل ومن أسبوع لآخر، تبعاً للمؤشرات الاقتصادية المتقلبة، حيث نشهد أحياناً ارتفاعاً في التوقعات يعقبه انخفاض سريع، مما يعكس حالة من الحذر والترقب المستمر في الأسواق.
ويتابع صليبي: "رغم الحديث عن تباطؤ في النمو إلا أننا نرصد بوادر على بقاء التضخم ضمن مستويات مرتفعة نسبياً، وربما العودة إلى حدود 3 بالمئة وهو ما يفرض تحدياً مزدوجاً يتعلق بالحفاظ على استقرار معدلات البطالة التي بقيت حتى الآن متماسكة".
ويشدد على أن استقرار أرقام التوظيف أسهم في امتصاص الكثير من الصدمات السلبية المحتملة، مؤكدًا أن التحدي الحالي يكمن في استمرار المخاطر التضخمية على الرغم من ضعف النمو.
وفيما يخص السياسات النقدية، يعتبر أن استمرار هذه الظروف قد يفسر تريّث الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة، حيث تبقى الأولوية في المرحلة المقبلة لتعزيز الاستثمارات ذات الطابع التضخمي، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، البنية التحتية، والمحافظ المالية.
ويختتم حديثه بالقول: "رغم التحديات، فإن بوادر التحسّن في التسويات الجمركية ووضوح المسار الاقتصادي أسهما في تفادي ركود تضخمي شامل حتى الآن، مما يدفعنا للتركيز على المؤشرات الرائدة والمتأخرة لرصد مدى قدرة الاقتصاد على الثبات، خاصة في ظل توقع بتحسّن نتائج الشركات الكبرى خلال الأرباع الأخيرة، وهو ما قد يُطمئن الأسواق بأن الاقتصاد لا يزال متماسكاً".