الأخبار: عامر علي-
تراجع المبعوث الأميركي، توماس براك، عن مواقفه السابقة تجاه الفدرالية والسويداء، في مناورة أميركية لضبط مسار الإدارة السورية الجديدة.
بهدوء، ومن دون ضجيج، تراجع المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس برّاك، عن تصريحات سابقة له أعلن فيها رفضه إقامة أيّ فدرالية في سوريا، ودعمه للسلطات السورية الانتقالية في حربها على الفصائل المحلية في السويداء. وجاء ذلك بعد تصعيد إسرائيلي غير مسبوق ضد الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، الذي حظي بدعم أميركي كبير في الفترة السابقة.
وبرّاك، الذي أظهرت تصريحاته تضارباً كبيراً مع توجّهات إدارة دونالد ترامب الداعمة لإسرائيل، ورغبتها في فرض معادلة جديدة في الخريطة السورية، عنوانها عمليات تقسيم طائفية في إطار حكم لا مركزي هناك، أشار في تصريحات جديدة، إلى أن «المجتمع الدولي احتشد إلى حدّ كبير خلف الحكومة السورية الناشئة، مراقباً بتفاؤل حذر سعيها للانتقال من إرث من الألم إلى مستقبل مُفعم بالأمل».
وتابع أن «هذا الطموح الهش تخيّم عليه الآن صدمة عميقة(...) الأعمال الوحشية التي ترتكبها الفصائل المتحاربة على الأرض، تقوّض سلطة الحكومة، وتعطّل أي مظهر من مظاهر النظام».
وبينما تسرّب وسائل إعلام أميركية معلومات عن «حالة غضب أميركية تجاه إسرائيل بسبب سلوكها في سوريا»؛ ومن ذلك ما نقله موقع «أكسيوس» عن مسؤول في البيت الأبيض لم يسمّه، من أن «بيبي (نتنياهو) تصرّف كمجنون.
يقصف كل شيء طوال الوقت. هذا قد يقوّض ما يحاول ترامب تحقيقه»، تظهر التصريحات الرسمية الأميركية اتساقاً كبيراً مع المساعي الإسرائيلية، الأمر الذي عبّرت عنه، بشكل صريح، الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية، تامي بروس، التي أكّدت أن الولايات المتحدة لا تعارض إعلان الفدرالية أو الحكم الذاتي في سوريا، معتبرةً أن الأمر متروك للسوريين لتحديد قرارهم.
وعلى مدار الأسبوع الماضي، لعبت الولايات المتحدة، عبر مبعوثها إلى سوريا، الذي يشغل منصب السفير في أنقرة أيضاً، دوراً بارزاً في محاولة إيجاد صيغة تهدئة تقبل بها إسرائيل، وتكبح جماح الفصائل التابعة أو المرتبطة بالإدارة السورية الجديدة، والتي ارتكبت في السويداء مجازر بالعشرات، وُثّق بعضها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بعد أن قام منفّذوها بنشرها للتباهي.
السويداء أصبحت الآن خارجة بشكل كامل عن سيطرة الحكومة
ومثّل ذلك استعادة لما عاشته اللاذقية - في آذار الماضي -، التي ما زالت تنتظر وفاء الإدارة بوعودها بمحاسبة مرتكبي تلك المجازر، بعد أن أعلن الشرع، أمس، تسلّمه التقرير النهائي للجنة التحقيق، في 13 الحالي، ما أثار تساؤلات حول سبب التأخر في الإعلان عن هذا التطور.
وبالعودة إلى برّاك، الذي حطّ في الأردن، حيث استقبل مبعوثين من إسرائيل وتركيا، التي تحاول إيجاد خريطة طريق جديدة للتهدئة بالتعاون مع السعودية، ومع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، فقد أعلن، لثلاث مرات متتالية، عن التوصل إلى تهدئة في السويداء، تقضي بتوقف العمليات العسكرية، وسحب القوات الموالية (العشائر) أو التابعة للإدارة السورية الجديدة، ونشر قوات أمنية سورية لمنع أي اختراقات، وهو ما فسّره بيان لاحق للشيخ حكمت الهجري عن أن القوات الأمنية ستنتشر على حدود السويداء، بالإضافة إلى فتح معابر إنسانية لإخراج العشائر (لم يحدّد بدقّة المقصود بهذه النقطة: العشائر البدوية التي تعيش في السويداء أم قوات العشائر التي اخترقت المحافظة وقامت بارتكاب مجازر وانتهاكات)، فضلاً عن محاسبة مرتكبي المجازر. ولربما يمكن عدّ ذلك بمثابة رضوخ من الإدارة السورية الجديدة للمطالب الإسرائيلية المُعلنة منذ البداية، والتي تفرض منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري، وتتخذ من حماية الدروز حجة لتأسيس واقع جديد في الخريطة السورية.
وفي خضمّ ذلك، بدا لافتاً اللقاء الذي عقده برّاك مع قائد «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، مظلوم عبدي، والذي تبعه إعلان حساب السفارة الأميركية في سوريا أن برّاك عبّر عن تقديره لقيادة عبدي، مشيداً بدور «قوات سوريا الديمقراطية» في مواصلة جهودها بالشراكة مع الولايات المتحدة في مكافحة تنظيم «داعش» في سوريا.
وأثار ذلك تساؤلات عديدة حول الدور الذي من الممكن أن تلعبه «قسد» في المستقبل السوري، في ظل تعثّر المساعي الأميركية لضمّها إلى هيكلية وزارة الدفاع الناشئة، ودمج «الإدارة الذاتية» بالدولة، بالرغم من الضغوط الأميركية، التي وصلت إلى حدّ شنّ برّاك نفسه هجوماً لاذعاً على «قسد»، على خلفية موقفها المتشدّد حيال عدد من النقاط الخلافية مع الإدارة الجديدة.
في السياق ذاته، خرج وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بتصريحات جديدة حمّل خلالها مسؤولية وقف «كارثة الجنوب» للسلطات السورية التي أكّد أنه يجب عليها إنهاؤها «إذا أرادت الحفاظ على أي فرصة لتحقيق سوريا موحّدة وشاملة وسلمية خالية من تنظيم داعش والسيطرة الإيرانية، وذلك عبر استخدام قواتها الأمنية، لمنع التنظيم، وأي جهاديين عنيفين آخرين، من دخول المنطقة وارتكاب المجازر»، مطالباً، في منشور له على منصة «إكس» بمحاسبة وتقديم أي شخص «مذنب بارتكاب فظائع إلى العدالة، بمن فيهم من هم في صفوفها، وبوقف عمليات اغتصاب وقتل الأبرياء، التي حدثت ولا تزال تحدث».
وفي نظرة أوسع إلى الصورة التي شكّلتها مجازر السويداء، وما أفضت إليه من واقع جديد للمحافظة التي أصبحت، حتى الآن، خارجة بشكل كامل عن سيطرة الحكومة، بعد أن كانت تملك فيها حضوراً على مستوى المحافظ وبعض المناصب الأمنية القيادية، وباتت تحت سلطة إسرائيل - التي يتطلب دخول الحكومة السورية إلى السويداء موافقة منها -، يتبيّن تشكّل واقع جديد أمام إدارة الشرع، التي وضعت نفسها بسبب هذه المجازر أمام احتمالات ضيقة: فإمّا أنها غير قادرة على ضبط فصائلها المتشدّدة (وهو التعهّد الذي قدّمه الشرع لأميركا)، أو أن تصريحاتها السابقة حول إنشاء دولة مواطنة مجرّد غطاء لاستمرار نشاط الجماعات المتشدّدة.
ويأتي ذلك وسط مخاوف من عودة نشاط تنظيم «داعش»، إلى جانب تعثّر مساعي ترامب، الراغب في الحصول على جائزة «نوبل للسلام»، عبر دفع عمليات التطبيع مع إسرائيل، تحت مسمى اتفاقات «أبراهام» التي كانت تسير الإدارة السورية الجديدة نحوها. ومن شأن كل ذلك أن يعيد «قسد»، الحليف الوثيق لواشنطن، إلى واجهة الأحداث، في ما يمكن اعتباره رسائل مشفّرة إلى الشرع، الذي يواجه في هذه الأثناء إحدى أصعب العقد، منذ تولّيه السلطة.