تُعتبر اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة من أبرز عناوين الإصلاح الجوهري في الدولة اللبنانية، وقد كُرّست بوضوح في وثيقة الوفاق الوطني " اتفاق الطائف " الذي شكّل الإطار الدستوري والسياسي لنهاية الحرب الأهلية. ومع ذلك، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على إقراره، لا تزال اللامركزية رهينة نظام مركزي مهترئ، يخشى أصحاب القرار فيه فقدان السيطرة، فيفضّلون الإبقاء على واقع الفشل بدل السير نحو شراكة فعلية تعيد إنتاج الدولة.
اللامركزية، هي آلية تنظيمية وإدارية تمكّن المواطن من الحصول على خدماته الأساسية بكفاءة وشفافية، وتعزّز المساءلة والمشاركة في اتخاذ القرار.
لذلك فإن تطبيق اللامركزية الإدارية والمالية بشكل فعلي يعني تحسين نوعية الخدمات العامة من مياه وكهرباء ونفايات وتخطيط عمراني، وتقليص الهدر ومكافحة الفساد من خلال رقابة محلية مباشرة من قبل المجالس المنتخبة.
بالإضافة الى خلق ديناميكية تنموية متوازنة بين المناطق، بدلاً من تكديس التنمية والفرص في العاصمة فقط.
غالبًا ما يُساء فهم اللامركزية في النقاش العام، وتُقدّم على أنها مقدّمة للفدرالية أو التقسيم، وهذا غير دقيق فاللامركزية تُطبق في الدول الموحدة، مثل فرنسا وإيطاليا، وهي تنظيم إداري، لا سياسي.
حين تطبّق ضمن إطار الدولة الواحدة، هي عنصر وحدة لا تفكيك، وهي أداة لتعزيز الانتماء الوطني من خلال تمكين كل منطقة من لعب دورها الإنمائي ضمن قوانين الدولة ومؤسساتها.
في ظل غياب اللامركزية، تستمر المناطق بالارتهان لسلطة سياسية مركزية تمارس الزبائنية والمحسوبيات، وتُهدر الإمكانات المحلية، وتمنع أي مبادرة خارج إطار الولاء السياسي. المواطن، في هذه الحالة، يُحرَم من الحد الأدنى من الكرامة، والخدمات، والعدالة الإنمائية.
اللامركزية ضرورة وطنية، وربما الفرصة الأخيرة لإعادة بناء الدولة على أسس حديثة. المطلوب ليس فقط تغيير القانون، بل تغيير الذهنية السلطوية المتحكّمة بمفاصل القرار، وإرساء شراكة فعلية بين المركز والمناطق، على قاعدة الثقة والعدالة والشفافية.