تألقت الفضة عبر العصور كمعدن يجمع بين الجمال والقيمة، لكنها اليوم تتجاوز هذا الدور التقليدي لتصبح عنصراً محورياً في قلب الصناعات المتقدمة والأنظمة الاقتصادية الحديثة.. يدخل المعدن في العديد من الصناعات من رقائق الإلكترونيات إلى الألواح الشمسية، ليؤكد حضوره في مشهد اقتصادي يتغير بسرعة.
وتكتسب الفضة مكانة خاصة نظراً لطبيعتها المزدوجة؛ كأصل استثماري يُقبل عليه الباحثون عن الملاذات الآمنة وقت الأزمات، ومكوّن صناعي أساسي في قطاعات تتسارع نحو المستقبل. وهذا المزيج يجعلها شديدة التأثر بمؤشرات الأسواق، من قرارات البنوك المركزية إلى التحولات التقنية الكبرى. كما تتحرك أسعار الفضة بتأثير عوامل متشابكة، أبرزها تطورات التضخم، وتوقعات أسعار الفائدة، وتقلبات الإمدادات، إلى جانب موجات التوتر الجيوسياسي حول العالم. وكلما ارتفع القلق في الأسواق، ارتفعت معها أهمية هذا المعدن.
وتدفع وفرة الاستخدامات الصناعية، إلى جانب التوجه العالمي نحو التكنولوجيا الخضراء، الطلب على الفضة إلى مستويات غير مسبوقة. ومع كل إشارة على نقص المعروض أو اختلال التوازن بين العرض والطلب، تتحول الفضة إلى عنوان بارز في أسواق المعادن النفيسة.
مستويات قياسية
وتبعاً لذلك، ارتفع سعر الفضة إلى أعلى مستوى منذ العام 2011 مع إظهار سوق لندن الفورية دلالات على شح الإمدادات.
وارتفع سعر الفضة الفوري ليصل إلى 38.47 دولاراً، وهو أعلى سعر له منذ سبتمبر 2011. كما ارتفعت العقود الآجلة الأميركية للفضة، حيث بلغت عقود سبتمبر 39.12 دولاراً للأونصة.
يُعدّ هذا الفارق السعري الواسع أمرًا غير مألوف، إذ عادةً ما يُسد بسرعة من خلال المراجحة، بحسب تقرير لـ "بلومبيرغ".
ارتفع سعر الفضة بنسبة 33 بالمئة هذا العام، متجاوزاً بمكاسبه مؤخراً سعر الذهب.
للفضة قيمة مزدوجة، إذ تُقدّر لاستخداماتها كأصل مالي وكمدخل صناعي، بما في ذلك تقنيات الطاقة النظيفة.
يُعدّ المعدن مكونًا رئيسيًا في الألواح الشمسية، وهو مصدر طلب متزايد الأهمية.
في ظل هذه الظروف، تتجه السوق نحو تسجيل عجز للعام الخامس على التوالي، وفقًا لمعهد الفضة، وهو مجموعة صناعية.
أسباب تفوق الفضة
الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية طارق الرفاعي، يرصد في حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" عدداً من الأسباب الرئيسية التي تدفع الفضة خلال العام الجاري، وأهمها:
ضغط المعروض المادي وضغط البيع على المكشوف.. مع انخفاض المخزونات (وشح الإمدادات في سوق لندن).
زيادة الطلب على الملاذ الآمن: (حيث أدت التوترات التجارية المستمرة، وتهديدات التعرفات الجمركية الأميركية على المعادن، والمخاوف الجيوسياسية إلى توجيه رؤوس أموال المستثمرين إلى المعادن النفيسة ).
عدم اليقين الاقتصادي الكلي (عززت التوقعات المتشائمة بشأن سياسة الاحتياطي الفيدرالي ومخاوف التضخم الاهتمام بالفضة كأداة تحوط من التضخم).
طلب صناعي قوي، في وقت يأتي فيه حوالي 80 بالمئة من الطلب على الفضة من الاستخدامات الصناعية والإلكترونيات والطاقة الكهروضوئية والذكاء الاصطناعي ومكونات السيارات الكهربائية، والتعقيم الطبي، إلخ).
نمو التكنولوجيا الخضراء (الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية) يؤدي كذلك إلى رفع الاستهلاك الأساسي بشكل مطرد.
تدفقات صناديق المؤشرات المتداولة.
ويضيف: "من المتوقع أن يستمر ضيق السوق، ومع تزايد الطلب الصناعي، قد تصل الأسعار إلى نطاق 40-50 دولاراً.. ومع ذلك، لا تزال التقلبات عالية، فصغر حجم سوق الفضة يعني إمكانية حدوث تحركات في أي اتجاه".
الرفاعي: الاستثمار في الفضة متقلب والطلب عليه متغير
ويشار إلى أنه يُحتفظ بمعظم الفضة في بورصة لندن من قِبل الصناديق المتداولة،ما يعني أنها غير متاحة للإقراض أو الشراء. وقد تلقى هذا المعدن الأبيض دعماً في الآونة الأخيرة نتيجة تدفقات قوية إلى الصناديق المتداولة المدعومة بالفضة، حيث ارتفعت الحيازات بمقدار 1.1 مليون أونصة يوم الخميس، وفقاً لبيانات جمعتها بلومبرغ.
ونقل التقرير عن دانيال غالي من شركة تي دي سيكوريتيز، قوله إن التدفقات الخارجة من الفضة بسبب فرص المراجحة المرتبطة بالتعرفات الجمركية أدت إلى انخفاض حاد في مخزونات الفضة في السوق.
تأثير الرسوم
نائب رئيس السلع في شركة ميهتا إكويتيز، راهول كالانتري،، يقول في تصريحات نقلتها عنه "سي إن بي سي تي في": "يبحث المستثمرون عن الأمان وسط تهديدات جديدة بفرض رسوم جمركية ومخاطر سياسية ناجمة عن التعرفات الجمركية الباهظة التي فرضها الرئيس الأميركي على الواردات، ودعوات لخفض أسعار الفائدة بشكل كبير، مما يُثير مخاوف التضخم".
ويعتقد بأن "الفضة لديها مجال أكبر للارتفاع "، منبهاً إلى أن اتجاهات أسعار الفائدة والتضخم تؤثر على الفضة. وعادةً ما تتحرك أسعار الفضة والذهب في نفس الاتجاه.
كما نقل التقرير عن نائب رئيس جمعية السبائك والمجوهرات الهندية، أكشا كامبوج، قوله: "أدت التوترات التجارية وتهديدات التعرفات الجمركية الجديدة إلى زعزعة استقرار الأصول الخطرة. ويتجه بعض المستثمرين إلى أصول الملاذ الآمن مثل الذهب والفضة".
1.16 مليار أونصة فضة تم بيعها في 2024
ووفق تقرير لـ fxempire، فإن الفضة تدخل النصف الثاني من شهر يوليو في وضعية صعودية قوية، مع ميل البنوك المركزية إلى سياسة تيسيرية، واستمرار تقلبات التجارة (في ضوء حرب الرسوم الجمركية التي يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب)، وتشديد أساسيات الصناعة، ومن ثم "لا تزال الظروف مواتية لارتفاع الأسعار". وبحسب التقرير: "لا يزال الاتجاه الصعودي على المدى القريب قائما في حين يظل الدعم فوق مستوى 37 دولاراً".
اهتمام المستثمرين
من جانبها، تشير خبيرة أسواق المال، حنان رمسيس لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن:
الفضة بدأت تجذب اهتمام المستثمرين بشكل متزايد، خاصة مع ارتفاعها إلى مستويات لم تشهدها منذ العام 2011.
الفضة تُعد أكثر وفرة من الذهب، لذا فإن تحركاتها السعرية عادة ما تكون بطيئة نسبياً، لكنها تستجيب تدريجياً لقوى العرض والطلب.
مع زيادة الطلب، ارتفعت أسعار الفضة بنسبة 34 بالمئة تقريباً منذ بداية العام حتى يوليو الجاري.
هذا الارتفاع يعود إلى توجه المستثمرين نحو تنويع محافظهم الاستثمارية باستخدام الفضة، كأداة للتحوّط ضد التضخم، خاصة مع وصول أسعار الذهب إلى مستويات لم تعد في متناول الجميع.. كذلك مع زيادة الطلب الصناعي.
وفي المقابل، تشير إلى استفادة الفضة من الترويج للاستثمارات البديلة من قبل بعض المؤسسات المالية العالمية، قبل الوصول الذهب إلى منطقة جني أرباح عند 3700 دولار للأونصة.
وتلفت في السياق نفسه إلى التنوع الكبير في استخدامات الفضة، والتي تدخل في الصناعات الثقيلة والمجوهرات الصناعات التكنولوجية، مما يمنحها سوقاً واسعة وقاعدة مستخدمين كبيرة حول العالم.
إلى جانب ذلك، تكتسب الفضة زخماً متزايداً ضمن سياسات التحول الأخضر، كونها عنصراً لا غنى عنه في تصنيع الألواح الشمسية ومكوّنات السيارات الكهربائية. هذا الدور المتنامي يضع الفضة في قلب التوجهات الجيوسياسية المتعلقة بالطاقة والبيئة، ما يعزز من مكانتها كأصل استراتيجي طويل الأجل، يتأثر ليس فقط بالعوامل المالية، بل أيضاً بالتوجهات العالمية نحو الاستدامة والاكتفاء الصناعي.