<
10 July 2025
أهل الحكم ينفّذون ورقة سرّية لأورتاغوس: إصلاحات وفق الرغبات الأميركية | برّاك عائد: فَلْنَرَ إن كان ممكناً وقفُ خروقات إسرائيل!

الأخبار: ابراهيم الأمين-

توم برّاك عائد إلى لبنان قبل نهاية الشهر الجاري. وهذه المرة، يُفترض ألّا يقتصر ما في جعبته على ورقة وردّ وردّ على الردّ، بل مقترحات عملية تستهدف ما يعتقد الموفد الأميركي أنه ممكن في المرحلة الحالية.


ورغم كل الكلام الإيجابي الذي نقله من التقوا الرجل في زيارته الأخيرة لبيروت، يدعو مطّلعون على الموقف الأميركي إلى الابتعاد عن «الرغبوية» التي يتميّز بها السياسيون في لبنان.

 

بالنسبة إلى برّاك، لبنان ليس مطلق اليدين في ما يمكن أن يقوم به. صحيح أنه تعمّد أن يكرّر أمام من التقاهم، وفي الإعلام، أن المسألة في النهاية تخصّ اللبنانيين، وأن المبادرة في أيديهم، إلا أنه يدرك جيداً أن لبنان ليس في وضع من يدّعي القدرة على معالجة أموره بنفسه. وما أشار إليه الموفد الأميركي حول «مسؤولية اللبنانيين أولاً»، كان الهدف منه أن يعرض خدماته على اللبنانيين، وأن يبلغهم بتكليف من رئيسه دونالد ترامب أنه يمكنهم اللجوء إلى الولايات المتحدة لمعالجة مشكلاتهم الكثيرة، وفي مقدّمها ملف الصراع مع إسرائيل، ولكن ضمن سياق مُقنِع لواشنطن أولاً، وقابل للتطبيق ثانياً، مع آلية تضمن التزام اللبنانيين ثالثاً.

 

كثيرون أشاروا إلى أن برّاك لم يناقش الردّ اللبناني في اجتماعاته الأخيرة. لكنّ الواقع أنه كان على معرفة، مُسبقاً بغالبية النقاط التي وردت فيه، وكان مطّلعاً على المداولات الجارية بين اللبنانيين، وأنه كان هناك من يشاور الأميركيين أثناء كل اجتماع أو بعده، في محاولة لفهم ما الذي يرضي واشنطن.

 

وهو بالطبع لم يكن يتوقع أن يحضر إلى بيروت، ليجد مجلس الوزراء قد أعدّ خطة مفصّلة على مستوى المراحل والوقت، لتلبية دعوة واشنطن إلى إنجاز اتفاق سلام مع إسرائيل.

 

كما أن برّاك الذي حرص على نفي وجود مهلة زمنية لم يكن يقول الحقيقة كاملة. فقد تحدّث بصراحة عن مساحة زمنية تمتد لثلاثة أشهر على أبعد تقدير. ولم يجب عن سؤال حول ما قصده عندما قال إن صبر ترامب ينفد سريعاً.

 

ويُنقل عن مرافقين للمبعوث الأميركي أن الأخير ليس دبلوماسياً بالمعنى التقليدي، بل رجل أعمال، لديه اطّلاع عام على السياسة، لكنه خبير في التواصل والتفاوض. وهو يعرف ترامب بصورة شخصية، ويدرك أن الأخير عندما طلب منه أن يلعب دوراً إلى جانبه، إنما فعل ذلك لأنه يريد تحقيق إنجازات في الملفات الصعبة خلال وقت قصير نسبياً.

 

وبحسب المصدر نفسه، فإن هناك تنافساً جدياً بين مجموعة من المبعوثين الذين كلّفهم ترامب بمهام صعبة، وزاد من ضغوطه عليهم في ضوء أمرين:

 

الأول، صدمته من عدم قدرته على إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحل سريع للمسألة الأوكرانية، بعدما أوحى للعاملين معه بأنه واثق من رغبة بوتين بإنهاء الحرب. ولا يهتم الرئيس الأميركي إن كانت هذه النهاية على حساب أوروبا، لكنه لا يريد اتفاقاً يكرّس انتصاراً روسياً يكون له أثره الكبير على المدى الاستراتيجي. وما زاد في إحباط ترامب أنه اختار مسؤولين في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ممن لا يعيقون عمل المبعوثين الخاصين. ومع إدراكه أن الإدارة العميقة في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ليست مرتاحة لحجم التفويض المُعطى للوسيط ستيف ويتكوف، إلا أن ترامب يمنع على هؤلاء التدخّل. ومع ذلك، لم يكن يتوقّع أن يعود إليه ويتكوف بأخبار سيئة، ويبلغه أن لا إمكانية لاتفاق قريب مع روسيا.

 

تقاطع أهداف يجعل الأميركيين يصرّون على نتائج سريعة وثابتة، وواشنطن مستمرة في دعم وتعزيز الجيش جنوباً عدّةً وعديداً

الثاني، إن ترامب أراد للحرب التي خاضها ضد إيران أن تنعكس تسريعاً تسويات لملفات كثيرة في المنطقة، من بينها الملف السوري، وإعادة تنظيم الوضع في العراق، وإنجاز اتفاق يناسبه في لبنان. ولكن، عندما انتهت الجولة إلى تعادل سلبي، وجد نفسه مضطراً إلى ممارسة ضغط أكبر في ملفَّي سوريا ولبنان، وهو يريد مجموعة من الإنجازات الخارجية، تضاف إلى ما يعتبره إنجازات داخلية على مستوى خفض العجز في الموازنة العامة، وإعادة تنظيم علاقة الدولة بالمواطن في أميركا، بما يجعله مرتاحاً في خوض معركة الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة خريفَ العام المقبل، خصوصاً أنه، على ما يبدو، يخشى مضاعفات داخلية لما يصدره من قرارات وما يقرّه نوابه من قوانين.

 

هذه الاعتبارات حاضرة بقوة في حسابات كبار موظفي الإدارة الأميركية. لكن بعض عارفي المبعوث برّاك يعتقدون أنه يختلف عن بقية المبعوثين. ويقول هؤلاء إنه من الفريق الذي يريد النجاح لترامب، لكنه، في ملف لبنان، يتعامل بشكل مختلف. ويُنقل عنه أنه عندما ناقش الملف اللبناني في زيارته الأخيرة لبيروت، استمع بجدّية إلى ملاحظات كرّرها الرؤساء الثلاثة ومسؤولون آخرون على مسامعه، من أن ما تقوم به إسرائيل بصورة متواصلة في لبنان، ومنع عودة سكان القرى الحدودية إلى منازلهم، وتعطيل عملية إعادة الإعمار، كلها أمور من شأنها تعقيد مهمة إقناع حزب الله بالدخول في برنامج لتسليم السلاح.

 

ولم يكن المبعوث الأميركي على أيّ حال غافلاً عن هذه النقطة. فبعد عودته من جولته الجنوبية، وبعد اطّلاعه على تقرير مفصّل عما أنجزه الجيش اللبناني من خطوات في جنوب الليطاني، قال إن الدمار الذي شاهده كان فظيعاً للغاية، وإنه كان مبهوراً بما فعله الجيش اللبناني. وتبيّن لاحقاً أن لهذا الكلام أبعاده، سواء لناحية النقاش في الولايات المتحدة حول توفير دعم إضافي للجيش، حيث توصي وزارتا الخارجية والدفاع بضرورة توفير نحو مليار دولار سنوياً لدعم الجيش بين رواتب وتجهيزات، أو لناحية أن يطلب برّاك من رئيسه تقديم العون لمشروع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الهادف إلى جمع مليار دولار لدعم عملية إعادة الإعمار في لبنان.

 

وحول برنامج عمل برّاك في الفترة الفاصلة عن عودته إلى بيروت، قال مصدر لبناني قريب من أحد الرؤساء إن الموفد الأميركي أقرّ بوجوب إلزام إسرائيل بالتوقف عن الكثير من العمليات القتالية في لبنان. وقال مسؤول لبناني آخر إن برّاك يستعد لمناقشة الجانب الإسرائيلي في آلية لضبط أعماله القتالية والخروقات اليومية للسيادة اللبنانية، وإنه يأمل أن يحصل من إسرائيل على خطوة تساعده في إقناع المسؤولين في لبنان بأن هناك ما يتغيّر في الأداء الإسرائيلي، ما يفتح الباب أمام نقاش يتعلق بسلاح حزب الله.

 

إلا أنه يكرّر أن بلاده ليست في وارد تقديم أي ضمانات بشأن ما يمكن أن تقوم به إسرائيل. لا بل كان صريحاً عندما قال إن الحرب لم تتوقف أصلاً، ولو كانت تحصل من طرف واحد. وهذا يعني أن اتفاق وقف إطلاق النار لا يعمل بشكل جيد، مشيراً إلى أن آلية عمل لجنة الإشراف على تنفيذ الاتفاق فشلت في تحقيق أهدافها.

 

عند هذه النقطة، كان لبنانيون يستمعون إلى برّاك يتوقّعون منه أن يحمّل إسرائيل مسؤولية فشل الاتفاق، أو أن يشير إلى تغيير يمكن أن يحصل في دور الولايات المتحدة. لكنّ الرجل ليس مهتماً بإلقاء المسؤوليات، بقدر ما يهمّه أن يقول إن هذا الاتفاق غير فعّال، وهناك حاجة إلى شيء بديل. وهو ما فهم رداً على موقف حزب الله الذي اختصره الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم بأن على الجميع العمل على إلزام إسرائيل بتنفيذ الاتفاق، قبل البحث في اتفاق جديد. وبرّاك، الآتي من عالم الصفقات، يقول إن فشل الاتفاق، أمر يمكن أن يحصل، وإن المهم تحقيق النتائج، وبالتالي، لا يجب أن يكون هناك رفض لعقد اتفاق جديد.

 

المبعوث الأميركي يرى الحرب مستمرّة، ناعياً اتفاق وقف إطلاق النار، لكنه ليس مستعداً لتحميل العدو المسؤولية أو تقديم ضمانات

هناك جانب آخر في مهمة برّاك لا يهتم الأميركيون بتظهيره، ويحرص المسؤولون في لبنان على تغييبه عن دائرة النقاش، وهو المتعلق بملف الإصلاحات المالية والاقتصادية. وإذا كان البعض في لبنان، يعتبر أن طلبات أميركا بما خصّ الإصلاحات هي أفكار لخدمة اللبنانيين فهو واهم. فقد تبيّن أن الموفدة السابقة مورغان أورتاغوس، كانت قد أعدّت ورقة مفصّلة حول الإصلاحات والقوانين، وسلّمتها للرؤساء الثلاثة ولآخرين.

 

وبحسب مصدر دبلوماسي غربي «فإن لبنان يشهد مفاجآت غريبة عن سلوك سياسيّيه وإعلاميّيه، وإذا كان براك ممتنّاً لعدم تسريب ورقته الأولى إلى الإعلام، فإن الأميركيين لن يتورّطوا في تسريب الردّ اللبناني. لكنّ الأهم، هو أنه لا يُتوقّع أن يبادر أي مسؤول لبناني إلى تسريب ورقة أورتاغوس».

 

والسبب، وفق مصدر مطّلع، «أن ورقة أورتاغوس، هي عبارة عن سلسلة من الشروط القاسية التي تتطلب إدخال تعديلات على كثير من القوانين المعمول بها، أو على مشاريع ومقترحات قوانين جديدة، وأن الرؤساء الثلاثة وقوى بارزة في البلاد تعهّدوا بتنفيذها، لكنهم يريدون ذلك بعيداً عن الأضواء». وقال المصدر: «لقد نجح كل هذا الفريق في جعل بند نزع السلاح، بنداً وحيداً على طاولة النقاش، وأبعد الملفات الأخرى عن الأضواء، والسؤال هو عن قدرة خصوم حكام لبنان اليوم على تظهير هذه الأمور».

 

تروي شخصية لبنانية على تواصل مع برّاك أنها عبّرت له عن استغرابها إصرارَه على رمي كرة النار في أحضان القيادات اللبنانية التي لا تبدو قادرة على فعل شيء. ولمّا سأل برّاك عن السبب، أجابته الشخصية بـ: «إنكم في أميركا، كما نحن في لبنان، نعرف أن ما تبحثون عنه متصل بتسوية كبرى يجب أن تحصل في المنطقة. وإنه من دون اتفاق واسع وثابت ومستقر مع إيران، ووقف تام للحرب على غزة، سيكون من الصعب الوصول إلى حل في لبنان». وبحسب الشخصية فإن برّاك، ابتسم وقال: «نعمل على الخطوط كافة، والرئيس ترامب لا يزال متفائلاً بالوصول إلى اتفاق قريب ومتين مع إيران، لكنّ أولويته اليوم، إنجاز الاتفاق حول غزة»!

 

غادر برّاك لبنان تاركاً خلفه الكثير من الأسئلة، لكنّ الأهم، هو أن من يتصرف براحة إزاء ما قام به الرجل وما قاله يكون ساذجاً، إذ إن السياسة الأميركية في المنطقة تقوم على الخداع. هذا ما حصل مع لبنان صيف 2024، عندما تمّ إنضاج فكرة اتفاق لوقف إطلاق النار فقامت إسرائيل باغتيال الشهيد السيد حسن نصرالله، وما حصل لاحقاً في سوريا عندما جرى الحديث عن نجاح الثوار في إسقاط النظام، ليتبيّن أن واشنطن كانت – كما إسرائيل – صاحبة دور في العملية، وصولاً إلى المفاوضات مع إيران، حين كان ويتكوف يُغرِق الإيرانيين في الكلام المعسول عن الاستعداد لاتفاق قريب، لتبدأ الحرب الإسرائيلية على إيران، قبل أن تنضم إليها أميركا.

 

في لبنان جهات تعي هذا الأمر، ولا تنام على حرير الكلام المعسول، بل تراقب ما يمكن للعدو أن يقوم به من جديد ضد لبنان، أو ما يمكن أن يخترعه البعض من مشكلات على الحدود مع سوريا... وهي أمور تحصل على قاعدة أنه لا يمكن للمؤمن أن يُلدَغ من الجحر ذاته مرّتين!

الأخبار