طوني عيسى -
لم يُصدِّق توما... برّاك، إلّا عندما وضع إصبعه في الجرح اللبناني. لكن، بما أنّ لديه «شغلاً كثيراً» في أماكن أخرى، كما قال في القصر، فقد ابتسم لنا كثيراً وقال: «دبّروا رؤوسكم. نحن أتينا لنساعدكم وندعوكم إلى الشرق الأوسط الذي سيتغيّر، فيكم وبلاكم. فإذا رفضتم المساعدة، اصطفلوا».
بمراقبة حركات وجهه والجسد، يمكن القول إنّ اللبناني الزحلي العتيق، إبن البرّاك، واحد من أبرع الديبلوماسيِّين الحاليِّين في إدارة دونالد ترامب. ومن زاوية مهنية، يمكن تهنئته لكفايته ومهارته في الخروج من الاجتماعات المعروف سلفاً أنّها فاشلة ومثيرة للتوتر والغضب، وهو في منتهى الانشراح والهدوء والإيجابية. ولكن، في المقابل، يجب على اللبنانيِّين أن يكونوا في المستوى إياه من المهارة في فهم الرسائل «السوبر نارية» التي أطلقها مبتسماً: «حلّوا مشكلاتكم بأنفسكم، كطوائف ومذاهب، و«حزب الله» منكم وفيكم. دبّروها بين بعضكم».
الجميع كان ينتظر أن يطلق برّاك مواقف غاضبة، سلبية وتهديدية واضحة، ضدّ «الحزب» والدولة، لكنّه كان أذكى بكثير ووجّه تهديداته بسلاسة، وقد أدركها الذين يقرأون جيداً:
1- هو شرعن إطلاق يَد إسرائيل في تنفيذ قرار وقف النار كما تريد، وكما تفعل منذ تشرين الثاني حتى اليوم، في غياب لجنة المراقبة التي يرئسها أميركي.
2- هو مهّد لعزل لبنان عن مسار التغيير الحتمي الذي يشهده الشرق الأوسط، الذي حجزت فيه سوريا الجديدة موقعاً.
3- هو برّر الضغوط العنيفة التي سيتعرّض لها «حزب الله» والدولة اللبنانية، بزيادة العقوبات الدولية وتضييق الخناق.
4- وهذا الأخطر، هو فتح الباب لبروز التناقضات الداخلية حول ملف السلاح. فتحت كل هذه الضغوط، سيكون على اللبنانيِّين أن يتوافقوا بأنفسهم على حل مشكلة السلاح، وهذا أمر صعب جداً على الأرجح.
لقد تزامن وجود برّاك في بيروت مع وجود بنيامين نتنياهو في ضيافة ترامب في واشنطن، حيث النقاش الأساسي يبدأ بملف إيران النووي ونفوذها الإقليمي، ويتشعّب إلى الملفات الشرق أوسطية الأخرى التي تتفرّع منه، بما في ذلك ملف «حزب الله» وسلاحه في لبنان.
وأجواء قمة ترامب - نتنياهو الحالية، التي تتمّ بعد الضربة المشتركة التي تلقّتها إيران، هي أفضل بكثير من أجواء القمة السابقة التي سادها التوتر. وفي تقدير ديبلوماسيِّين أنّ التفاهم الإسرائيلي - الأميركي سيتجلّى في لبنان تكاملاً في التنسيق. فبعد الردّ اللبناني السلبي على الورقة الأميركية، بات وارداً أن توسع إسرائيل إطار حربها على «حزب الله»، فيما يزيد الأميركيّون، توازياً، الضغط إلى حدوده القصوى على الدولة.
ويرى هؤلاء الديبلوماسيّون أنّ إسرائيل ستطلق يدها في لبنان خلال المرحلة المقبلة. وهم يستندون في ذلك إلى تراجع قدرات إيران بعد تدمير جزء ملحوظ من منشآتها النووية وقواعدها الصاروخية ومقوّمات اقتصادها الاستراتيجية. وفي الأساس، هي لم تَعُد قادرة على إيصال الدعم إلى «حزب الله» مالياً وعسكرياً بسبب انقطاع الشريان الذي يربطها به، نتيجة سقوط نظام الأسد في سوريا، أو تقلّصه إلى حدّ كبير.
كما أنّ أولوية إيران هي اليوم إعادة بناء قدراتها الدفاعية، وأمّا دعم الحلفاء في الإقليم فبات محلّ الاهتمام الثاني، علماً أنّ مفهوم «وحدة الساحات» الذي تروّج له إيران تعرّض إلى ضربات قاصمة، في حروب إسرائيل على غزة ولبنان واليمن. وقد خاضت إيران حربها الأخيرة وحيدةً، وأصيبت بالإنهاك، كما أصيب قبلها «الحزب» نفسه، من دون أن يتدخّل أي من حلفائه لمساعدته جدّياً.
يُخشى أن تستغل إسرائيل «الفرصة الذهبية» لاستكمال ما تسمّيه «إزالة التهديد الذي يُشكّله «حزب الله». وبعد نجاحها في ضرب الرأس إيران، ستكون أكثر جرأة لتغيير قواعد اللعبة مع «الحزب»، وستضغط بقوة أكبر لتطبيق اتفاق وقف النار والقرار 1701 بشكل كامل، بما في ذلك إبعاد مقاتلي «الحزب» عن جنوب الليطاني.
وفق ما أظهرت ورقة برّاك التي سلّمها إلى المسؤولين في زيارته السابقة، ما يعني إسرائيل من سلاح «الحزب» في شمال الليطاني هو الصواريخ البالستية والدقيقة التوجيه والمسيّرات ومصانعها، لكنّها ليست معنية بالسلاح المتوسط والخفيف الذي يملكه «حزب الله» خارج منطقة جنوب الليطاني. وما يُثير الخشية هنا هو أن يغضّ الأميركيّون والإسرائيليّون الطرف عن السلاح المتوسط والخفيف في شمال الليطاني، بعدما ضمنوا أنّه لا يمكن أن يزعج إسرائيل، فيصبح الأمر موضع نقاش ملتهب بين الطرفَين المتنازعَين في لبنان: «الحزب» وحلفاؤه الذين يُريدون الإبقاء على سلاحهم، أياً يكن حجمه وطبيعته. وفي المقابل، قوى لبنانية رافضة للسلاح، وتسأل: ماذا سيفعل «الحزب» بسلاحه المتوسط والخفيف في شمال الليطاني، وقد صارت إسرائيل بعيدة عشرات الكيلومترات عنه؟ هل سيحتفظ به لضرورات التفوّق على الآخرين في الداخل؟
هذا السجال اللبناني - اللبناني يُخشى أن يصبح ساخناً، خصوصاً أنّ الأميركيِّين سيرفعون ضغوطهم على لبنان، وسيربطون أي مساعدات مستقبلية بتنازلات جذرية تقدّمها الحكومة في ملف سلاح «الحزب» ونفوذه، وبالإصلاحات العميقة في النظام المالي والاقتصادي.
إذاً، لبنان أمام خيارات صعبة. وسيجد «حزب الله» نفسه في موقف صعب، إذ سيتعيّن عليه أن يقرّر ما إذا كان سيقاتل حتى النهاية ويغامر بتدمير نفسه كلياً، أو يتنازل جزئياً لحفظ وجوده. وفي أي حال، سيزداد الضغط الداخلي بتزايد التحدّيات الاقتصادية والمعيشية والتهديد بالحرب الشاملة، لمطالبة «الحزب» بالتنازل وتسليم السلاح إلى الدولة.
السيناريو المرجّح هو حرب واسعة النطاق، ربما تستكمل فيها إسرائيل ضرباتها لـ«الحزب» وهيكليته وقياداته، في موازاة ضغوط أميركية هائلة على الدولة. والأرجح أنّ «الحزب» سيصرّ على مواقفه، إلّا إذا اضطرّته الحرب إلى تقديم تنازل جزئي يتعلق بسلاحه ونفوذه، ربما بتسليم بعض أنواع السلاح أو الانسحاب الكامل من مناطق معيّنة، لتجنّب التدمير الكامل.
لكنّ الأسوأ هو أن تعجز الدولة عن التوفيق بين مطالب واشنطن وإسرائيل وموقف «حزب الله»، أو أن يفشل الجميع في ابتكار تسوية. حينذاك، قد يدفع الضغط بلبنان إلى الانهيار الكامل، وقد يتعرّض إلى حال من الفوضى تزعج المجتمعَين العربي والدولي، فيندفعان إلى البحث عن مخارج للتخلّص من «المأزق اللبناني». وفي هذا البحث قد يُعثَر على خيارات لم تخطر في بال اللبنانيِّين حتى الآن، وتقود إلى تغييرات جذرية في المشهد الأمني والسياسي.