<
21 June 2025
بين التدخّل المحدود والتصعيد المنفلت: ترامب عالق في «اللَّاقرار»

يحيى دبوق -

مع دخول الحرب الإسرائيلية على إيران أسبوعها الثاني، تتّجه الأنظار نحو الولايات المتحدة، في ظلّ تساؤلات متزايدة حول مدى استعداد الأخيرة للانخراط المباشر، الذي يُرجَّح، في حال حصل، أن تكون طبيعته مغايرة للحروب التي خاضتها واشنطن في العقود الماضية، أي أن يكون تدخُّلاً محدوداً ومركّزاً على ضربات جوية مدروسة، من دون أيّ نيّة لتدخّل بري، أو سعي حقيقي لتغيير النظام في طهران.

لكن هكذا خطوة، وعلى الرغم من محدوديتها، لها شروطها، وفي مقدّمها نجاح إسرائيل أولاً في إضعاف البنية العسكرية الإيرانية وتليين مقاومتها، لخلق بيئة مؤاتية لأيّ تحرّك عسكري أميركي يحدّ من المخاطر المباشرة على القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة؛ ذلك أن وجود أكثر من 40 ألف جندي أميركي في الخليج، وفي دول مجاورة لإيران، يجعل هؤلاء أهدافاً سهلة لأيّ ردّ انتقامي إيراني قد يكون مؤلماً وواسع النطاق.

ويلعب الحلفاء الإقليميون، وخاصة إسرائيل، دوراً كبيراً في محاولة دفع الولايات المتحدة نحو التحرّك، وإنْ كانت تلك الجهود وحدها لا تكفي ليبني عليها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حساباته، التي تركن خصوصاً إلى معادلة الجدوى والكلفة. وحتى الآن، لا يبدو أن ثمة جواباً واضحاً لديه، سواء من الداخل الأميركي، أو لجهة الواقع الميداني؛ ولا سيما أن الفائدة الاستراتيجية من تدخّل واشنطن لا تزال غامضة، فيما تبدو الكلفة المحتملة مرتفعة جدّاً.

وبذلك، تبقى الإجابة عن سؤال التدخّل الأميركي غير واضحة المعالم: أي إنها ليست «نعم» وليست «لا»، ولكن بينهما؛ إذ يعتمد القرار على تطوّرات سريعة ومتغيّرة على الأرض، وعلى حسابات أخرى معقّدة. ومن بين العناصر الرئيسية التي من شأنها أن تعقّد القرار الأميركي، مسألة استهداف منشأة «فوردو» النووية، التي تُقدَّم في بعض الدوائر الإعلامية، باعتبارها «الهدف النهائي» الذي من شأن ضربه أن يقضي على الطموحات النووية الإيرانية.

لكنّ الواقع يخالف الاعتقاد المتقدّم؛ إذ على الرغم من أن الضربة الأميركية المحتملة قد تكون دقيقة وقوية، فإن فعاليتها ليست مضمونة، خصوصاً إذا لم تكن مصحوبة بقدرة على اختراق المنشآت العميقة أو تدمير المعدّات الحساسة. وحتى في أفضل السيناريوات، لن تُنهي هذه الضربة المشروع النووي الإيراني، الذي تجاوز نقطة اللاعودة، منذ زمن طويل جدّاً.

وقد يكون ضرب موقع مثل «فوردو» خطوة رمزية مهمّة، لكنه ليس نهاية القصة. فهو قد يعطي انطباعاً عسكريّاً قويّاً بالقدرة، ويبعث برسالة إلى طهران مفادها أن واشنطن لا تقف مكتوفة الأيدي؛ لكنّ الإجابة على سؤال ما إذا كانت ضربة من هذا النوع ستؤدي إلى تغيير حقيقي في موازين القوى، ليست بسيطة. ذلك أن أيّ تغيير أو هدف تغييري لا يقاس بواسطة الضربات مهما كانت ناجحة فحسب، بل من زوايا متعدّدة أيضاً، من بينها: نيّة ترامب، الحسابات الجيوسياسية، معادلة الثمن مقابل الفائدة، وطبيعة النظام الإيراني نفسه وقدرته على الصمود.

ولعلّ الأمر الأكثر أهمية، هو أن ضرب «فوردو» نفسها، قد لا يمنع التصعيد، بل ربما يشكّل نقطة بدايته. فردّ فعل إيران المتوقّع، يمكن أن يجرّ الولايات المتحدة إلى تدخّل أوسع وأعمق ممّا كانت تنويه ابتداءً، وهو بالضبط ما يخشاه ترامب، الذي ينظر إلى الحرب على أنها صفقة يجب أن تحقّق ربحاً واضحاً وأيضاً فوريّاً، وليس انهماكاً وانشغالاً طويلَين. وهكذا، فإن ما يعني صاحب القرار الأميركي، يبقى معلّقاً بين الحسابات والمصالح والمخاوف، في حين أن الواقع الإيراني يبقى معقّداً وصلباً، ولا يمكن كسره عبر ضربة واحدة، مهما بلغت قوتها أو دقّتها.

ومن ناحية إسرائيل، يتأكّد يوماً بعد يوم أن الأخيرة بدأت الحرب من دون استراتيجية واضحة للخروج منها. ويشير ما يرد من تسريبات من داخل المؤسستَين الأمنية والسياسية، إلى أن قرار بدء العملية العسكرية لم يستند إلى خطّة شاملة، بل نتيجة إغراء الفرصة التي قدّمتها الضربة الجوية الأولى والرهان عليها؛ إذ يبدو أن بنيامين نتنياهو وحكومته عوّلا على أن تلك الضربة - سواء ترافقت مع مساعدة أميركية أم لا - ستكون كافية لإحداث انهيار داخلي في النظام الإيراني، أو على الأقل تليين مقاومته ودفعه إلى الاستسلام.

لكنّ الواقع يُظهر أن هذا التقدير كان متفائلاً إلى حدّ بعيد، إنْ لم يكن غير واقعي. وممّا يزيد الأمور تعقيداً، أن الولايات المتحدة نفسها لم تضع استراتيجية مشتركة مع إسرائيل لتحديد «مخرج» من الحرب - سواء عبر اتفاق سياسي، أو عبر ضمانات أمنية طويلة الأمد -، الأمر الذي يفسّر حالة الارتباك المشترك بين الحليفَين وعدم الحسم في اتخاذ القرارات.

وتنقسم الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، بين تيارَين رئيسيَّيْن يتنافسان على توجيه السياسة والقرارات في ما يتصل بالحرب على إيران: الأول من «الصقور» ممَّن يرون في القوّة العسكرية اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم. ويتّخذ هذا التيار موقفاً أيديولوجياً صريحاً ضدّ الإسلام السياسي، وبخاصة الجمهورية الإسلامية في إيران، كما يرى أن اللحظة الحالية مؤاتية لإحداث تغيير جذري في طبيعة النظام الإيراني. في المقابل، هناك التيار الذي يمكن وصفه بـ»الواقعي»، الذي يضمّ مسؤولين مهنيين من «البنتاغون» ووزارة الخارجية ووكالات الاستخبارات، ويحذّر من المخاطر الكبيرة لتدخّل عسكري مباشر في إيران، خاصة بعد التجارب المريرة في العراق وأفغانستان.

ويرى أن الضربات الجوية لن تكون كافية لإحباط المشروع النووي الإيراني، مع التشكيك في جدوى أيّ تصعيد عسكري من دون استراتيجية خروج واضحة، فيما يحذّر من أن التصعيد قد يعزّز موقع إيران الإقليمي بدلاً من إضعافه. أمّا ترامب نفسه، الذي يمكن أن يكون تياراً في حدّ ذاته، فهو لا ينتمي بشكل واضح إلى أيّ من المعسكرَين المذكورَين، بل يميل إلى ما يخدم مصالحه ويقوّي صورته، من دون أن يجرّ الولايات المتحدة، كمحدّد نهائي وحاسم، إلى مواجهة طويلة الأمد.

بالنتيجة، من الواضح أن ترامب يتردّد بين الجناحيْن المتنازعَيْن داخل إدارته، وإنْ كان في الوقت نفسه يستغلّ تردّده هذا كأداة تفاوضية، في محاولة لفرض ضغوط على إيران ودفعها إلى التراجع أو تقديم تنازلات؛ وهي محاولة استغلال واضحة جداً، خصوصاً في ظل إعلان الإدارة نيّة رئيسها اتّخاذ قراره بخصوص التدخل من عدمه خلال أسبوعين. وهو خطّ زمني قد لا يكون له أساس واقعي، لكنه يصلح لتعزيز موقع واشنطن التفاوضي، ومحاولة الكسب المسبق عبر الضغوط، قبل اتّخاذ قرار بأيّ خطوة تصعيدية فعلية.

 

الأخبار