<
07 June 2025
خاص- تحوّل في المقاربة الأميركية للبنان: براغماتية بديلا من التصادم؟

خاص tayyar.org
تشكل الإقالة المرتقبة لمورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، لحظة مفصلية في مقاربة واشنطن للملف اللبناني، وتفتح الباب أمام تحوّل محتمل في أدوات وآليات التدخل الأميركي في المنطقة. فهذه السيدة، التي ارتبط اسمها بمواقف متشددة من "حزب الله" والنفوذ الإيراني في لبنان، كانت تمثل اتجاهاً صلباً داخل الإدارة الأميركية، وامتداداً لنهج الوزير الأسبق للخارجية مايك بومبيو، الذي تبنّى سياسة المواجهة المباشرة مع المحور الإيراني.
لم تكتفِ أورتاغوس، في فترة عملها، بإصدار المواقف، بل كانت رأس حربة في الدفع نحو تشديد العقوبات، وتحفيز الخطاب العدائي ضد خصوم واشنطن في لبنان، وهو ما جعلها محط أنظار القوى السياسية المحلية، خصوصاً تلك التي تتقاطع مصالحها مع المحور الإيراني.
تتقاطع الإقالة، وإن بدت في ظاهرها إدارية، مع مرحلة دقيقة تعيشها الإدارة الأميركية، سواء على صعيد التبدلات في الطاقم الدبلوماسي، أو على مستوى مراجعة الأولويات الإقليمية في ظل تصاعد الأزمات في الشرق الأوسط، من غزة إلى اليمن، ومن العراق إلى لبنان. فمع رحيل أورتاغوس، يلوح نمط جديد من الخطاب الأميركي، يميل إلى البراغماتية والانفتاح، بعيداً من الحدة الإيديولوجية التي وسمت المرحلة السابقة. وهذا ما تؤكده مصادر دبلوماسية في بيروت، ترى في هذا التحول محاولة أميركية لإعادة التموضع، عبر استبدال سياسة الضغط الأقصى بسياسة تدرّجية تسعى إلى فتح قنوات تواصل مرنة، حتى مع الخصوم، في إطار تفاوضي لا يستبعد أحداً.
في هذا السياق، يُطرح اسم جويل رايبورن كأبرز المرشحين لتسلّم الملف اللبناني في وزارة الخارجية، وهو الذي ينتظر تثبيته مساعدا لوزير الخارجية لشؤون لشؤون الشرق الأدنى. ورايبورن المعروف بانتمائه إلى المدرسة الدبلوماسية الكلاسيكية، يُتوقّع أن يحمل معه أجندة توازن بين ثلاثية واضحة: تحييد سلاح "حزب الله" ضمن مسار بعيد المدى، دعم الجيش اللبناني كمؤسسة قادرة على ضبط التوازن الداخلي، والضغط الناعم على النخبة السياسية لدفعها نحو الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي. هذه الرؤية لا تلغي جوهر السياسات الأميركية، لكنها تُعيد ترتيب أولوياتها وأدواتها، بما يعكس فهماً أعمق لتعقيدات الساحة اللبنانية، وحدود التأثير الأميركي فيها.
لكن، في مقابل هذا التحول، ثمة من يرى في إقالة أورتاغوس رسالة ضعف قد يستثمرها بعض القوى اللبنانية، وفي طليعتها "حزب الله"، الذي طالما استخدم التصعيد الأميركي لتبرير مواقفه وسلوكياته داخلياً. إذ إن خفوت النبرة الأميركية قد يفهمه الحزب على أنه تراجع في الإرادة السياسية، مما يفتح أمامه هامشاً أوسع للمناورة والتصلّب. ويظهر ان الحزب بات فعليا يتصرّف وفق هذه القراءة، خصوصا ان القريبين منه باتوا يسوّقون فكرة أن السلاح لم يعد عند أهل الحكم أمرا داهما، وأنه جرى استيعاب الهجمة التي تعرّض لها في الآونة الأخيرة.
غير أن هذا الاستنتاج قد يكون متسرعاً، لأن الانفتاح الأميركي لا يعني بالضرورة التنازل، بل قد يكون جزءاً من استراتيجية أعمق تهدف إلى تحقيق نتائج ملموسة عبر أدوات مختلفة، بعدما أثبتت سياسة المواجهة المباشرة محدوديتها في تغيير موازين القوى.
في خضم هذا التحول، تتعيّن مراقبة الآلية التي ستتبعها الإدارة الرئاسية الأميركية في تعاملها مع ملفات لبنانية مترابطة، مثل ترسيم الحدود البحرية، والتجديد لقوات اليونيفيل، ومصير المساعدات الدولية، وهي ملفات تشكل في مجموعها بوابة النفوذ الأميركي في لبنان. وإذا ما تمكّن البديل المرتقب لأورتاغوس من إدارة هذه الملفات بفاعلية، فإن ذلك سيمنح واشنطن ورقة تأثير حقيقية، من دون الحاجة إلى صدامات مكلفة.
يتحصّل من هذه القراءة أن إقالة أورتاغوس ليست حدثاً عابراً في السياسة الأميركية تجاه لبنان، بل علامة فارقة على بداية مقاربة مختلفة، تحاول أن توازن بين ضرورات النفوذ ومقتضيات الواقعية السياسية. وهي لحظة اختبار لقدرة واشنطن على التجدد في أساليبها، من دون التخلي عن أهدافها، وعلى التفاعل مع لبنان كبيئة معقدة تتطلب أدوات ذكية، وليس فقط مواقف صلبة. والرهان في واشنطن هو على فاعلية هذا التحول، ومدى قدرة البديل على صوغ خطاب يحقق المصالح الأميركية، ويمنح لبنان في المقابل فرصة للاستقرار والانفتاح على حلول اقتصادية وسياسية مستدامة.