هكذا انتهت على خير المرحلة الرابعة والأخيرة من الانتخابات البلدية، ونسي أو تناسى الجميع حصرية السلاح، إلى ما هنالك من معزوفة السلم الأهلي والمطالب الدولية، وانصرف الجنوب كله في انتخاب بلديات ظاهرها الإنماء ولكن باطنها أكثر من سياسي. فأهل الجنوب قاموا بزحف شعبي لا مثيل له إلى قراهم حتى تلك المدمرة منها ليدلوا بأصواتهم لصالح هذا الفريق أو ذاك أو هذه اللائحة أو تلك، لم يحل بينهم وبين الإدلاء باصواتهم شيئاً، فلا التهديدات الإسرائيلية منعتهم، ولا قصف مسيرات العدو وطائراته التي شنت أكثر من غارة عشية الاستحقاق الجنوبي، شكلت حالة رعب لديهم، فشكل يوم السبت الانتخابي إن في البلدات أو المراكز الانتخابية المستحدثة لتلك المدمرة منها، عرساً وطنياً بكل ما للكلمة من معنى. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على مدى تعلق اللبناني ولا سيما الجنوبي بأرضه، هكذا شكلت الانتخابات البلدية استفتاء على وطنية الناخبين الذين أرسلوا لكل العالم ولا سيما للعدو الإسرائيلي رسالة مفادها أنه ومهما بلغ حجم الدمار وأياً تكن الضغوطات فإن أهل الجنوب سيبقون الأكثر تعلقاً بأرض الوطن والأكثر تجزراً في ترابه. لقد تحدى الجنوبي دول الأرض قاطبة، وأكد مرة أخرى أنه لن يتخلى عن العودة ولن يتخلى عن إعادة إعمار ما تهدم وأنه لا ينفك يغني مع وديع الصافي "الله معك يابيت صامد بالجنوب".
إضافة للبعد الوطني كان للانتخابات بعداً سياسياً
وبعد العرس الوطني كان لا بد لنا من أخذ العبر من نتائج هذه الانتخابات التي تعددت رسائلها ولا سيما على الصعيد الداخلي. وفيما يلي لمحة سريعة على نتائج ومجريات نهار السبت الطويل.
1- لقد استطاع التيار الوطني الحر من استعادة عرينه وتلونت عروس الشلال باللون البرتقالي، واستطاع النائب السابق ابراهيم عازار حليف التيار من تبيان حيثيته الجزينية الأصيلة والتي وبرغم الشائعات أثبت أن إبن البيت العريق لم يكن فقط مدعوماً من حركة أمل إنما من كل أهالي جزين، ولا عجب فهو إبن النائب المرحوم سمير عازار وحفيد واحدأ من أهم رجالات الجنوب عنيت به ابراهيم عازار الجد. وقد استطاع التيار الوطني الحر الذي لعبها صح هذه المرة في جزين، التفلت من الخطابات المتشنجة التي شكلت عبئاً عليه، والتي شكل خروج المنادين بها من منظومة التيار إلى إعطاء الصورة الحقيقية للتيار المنفتح الذي يمد يده إلى الجميع بدون استثناء.
2- لقد أتت الانتخابات الجنوبية لتؤكد المؤكد من أن الثنائي الشيعي ما زال يحظى بالتاييد المطلق داخل الطائفة الشيعية، ولم تنفع كل محاولات النيل منه لإظهاره بمظهر الضعيف أو المهزوم، وحتى أن الحرب الأخيرة التي ادت إلى اغتيال القادة لم تنفع في تفكك قاعدة المقاومة الشيعية. وظل أهل الأرض أوفياء وبقي جمهور المقاومة متماسكاً.
3- لقد برهنت انتخابات الجنوب وكما الانتخابات البلدية في كل لبنان ولا سيما في بيروت العاصمة، أن ما يعرف بقوى التغيير كانت غائبة كلياً عن المعركة ولم يكن لها اي تاثير على مجريات العمليات الانتخابية. وذلك بالرغم من أن الإنماء هو الملعب الواسع للتغييريين، وهم إذا كانوا فشلوا في إثبات وجودهم في ملعبهم فمن المؤكد أنهم سيفشلون في ملعب السياسة الأوسع، فحينها لن يكون الملعب ملعبهم ولا الأرض أرضهم.
4- لقد تبين أن الخطاب المتشنج لبعض الأفرقاء ولا سيما القوات اللبنانية لم يعط نتائجه الإيجابية على أرض الجنوب، فالناس لا يمكن أن تمشي بخطاب التحدي وأن ما يصح في بعض القرى النائية لا يمكن أن يصح في المدن ولا سيما في البلدات المختلطة حيث الخطاب الجامع والمعتدل هو سيد الموقف.
5- من هنا على الجميع قراءة الانتخابات البلدية ونتائجها بتأنٍ كبير فهي وإن كانت إنمائية وعائلية بامتياز إلا أن السياسة لم تكن غائبة عنها. وإذا أراد البعض النجاح في الانتخابات النيابية التي ستجرى بعد عام بالتمام والكمال عليه أن يطور أو يعدل خطابه السياسي، وأنه في الانتخابات ينبغي دراسة الأرض جيداً والابتعاد عن لغة التحدي والعنجهية في رسم التحالفات الانتخابية. فالسياسة هي فن الممكن وذلك كما عرفها ليون غامبيتا رئيس الوزراء ومؤسس الجمهورية الثالثة في فرنسا.