الديار: نبيه البرجي-
ما الذنب الذي اقترفه ذاك العجوز الدرزي في أشرفية صحنايا، والذي كان يبتهج اذا لبى أحد المارة دعوته الى احتساء القهوة أو الشاي أو المتة معه، ليذبح من الوريد الى الوريد، وبعدما ذبح 194 طفلاً علوياً بهذه الطريقة (المرصد السوري لحقوق الانسان)؟ رجال الأمن كانوا يدخلون الى البيوت ليسألوا "أنت سني أم درزي"؟متى كان هذا يحدث في سورية قبل الحرب؟ نزار قباني أخبرني أنه توجه الى احدى كنائس دمشق لحضور جناز صديق قديم له، ففوجئ بالصلاة عليه في المسجد.
سيدة درزية مثقفة وراقية، سورية جداً وعروبية جداً، حدثتنا عن حالة الرعب التي عاشتها عائلتها، "لكأن الزمن توقف في وجهونا على مدى تلك الساعات الطويلة". قتل ثم قتل ثم قتل. هل هذه سورية التي تم تحريرها لاقامة دولة الحرية والديموقراطية والعدالة؟ لا أحد يدافع عن نظام بقي لأكثر من نصف قرن، حتى ولو أقام جمهورية أفلاطون. ولكن هذا ما توقعناه بسبب انتشار ذلك الوباء الايديولوجي في العديد من المناطق. فوضى مروعة اذا أخذنا بالاعتبار ما فعله المال الخارجي في الرؤوس الميتة وفي القلوب الميتة، في ظل ادراة تحتار اذا كانت بادارة الحجاج بن يوسف (وكم كان عادلاً !) أم بادارة هولاكو...
هكذا أصبح جزار الحي، أو صاحب طنبر المازوت، قائداً ثورياً أين منه اميليو زاباتا أو تشي غيفارا. هذا ما يريده رجب طيب أردوغان. قيادة على شاكلة الرسوم المتحركة. لن نصل الى حد استعادة وصف بابلو نيرودا لوجوه الجنرالات في بلاده بوجوه الذئاب. الوجوه التي رأيناها في الساحل، أو في مطعم "ليالي الشرق"وسط دمشق، أكثر بكثير من أن تكون وجوه الذئاب.
السيدة عادت الى تظاهرة (وظاهرة) توجه مئات المشايخ الدروز (من أصل 1200 تقدموا بطلبات الذهاب) الى مقام النبي شعيب في "اسرائيل"، ما يحدث للمرة الأولى منذ عام 1974، لتسأل لماذا لم تعترض الادارة الجديدة على ذلك، كما لم تعترض على احتلال "اسرائيل" للجزء السوري من جبل الشيخ، وتقدمها الى أبواب دمشق، لتتحدث عن ذلك السيناريو الغريب والمريب الذي جرى اعداده في الظل (كيف ولماذا؟)، ولتؤكد أن الزيارة لم تكن لغايات دينية، وانما لغايات سياسية، والا لماذا حدثت في هذه الحقبة بالذات؟
كلام كثير عن توجيهات الرئيس التركي بالانفتاح على "اسرائيل". المضحك المبكي تهليل البعض للخبر القائل ان الطائرات التركية كادت تصطدم بالطائرات "الاسرائيلية"، التي نفذت منذ سقوط النظام 500 غارة على سورية، دون أن يهتز طربوش السلطان.
أضافت "كيف يمكن أن نصدق بأن "الاسرائيليين" يفعلون ما يفعلونه حباً بالدروز، وهم الذين يرون ان العربي الجيد هو العربي الميت" ؟ لتشير الى أن كل ما يحدث الآن على الأرض السورية من قتل منهجي، ومن اعتقال عشرات الآلاف من أبناء الأقليات الدينية، هو لمصلحة "اسرائيل" التي تراهن على التفكك السوسيولوجي كطريق مثالي للتفكيك السياسي والتفكيك الجغرافي. هذا ما صرح به للملأ وزير المالية "الاسرائيلي" بسلئيل سموتريتش، كمدخل لتفكيك العراق، وحتى تركيا.
السيدة الدرزية (السورية بالدرجة الأولى) سألت لماذا لم يدافع "الاسرائيليون" عن السويداء لدى الهجوم عليها ؟ رأت أن الثقة باتت مفقودة كلياً بين الأقليات والسلطة، وكذلك بين السلطة والنخب السنية التي كانت تتطلع الى دولة حديثة لا الى دولة تورا بورا. اللافت هنا كلامها عن فيصل القاسم ابن السويداء، ودوره في ذلك السيناريو، باستجلابه في برنامجه "الاتجاه المعاكس" على قناة "الجزيرة، " "مطرباً من سوق الجمعة ومطرباً من سوق الأحد"لاضرام النار. على الشاشة حوار القباقيب...
متى لم تكن سورية، ومنذ جلاء القوات الفرنسية عنها في 17 نيسان 1946، حلبة للصراع كونها احدى البوابات الكبرى الى داخل الشرق الأوسط (وحتى الشرق الأوسط الكبير). الآن، لا بوابة لسورية التي دمرت "اسرائيل" كل بناها العسكرية، لتكون الدولة العارية في هذا العراء العربي اللامتناهي.
السيدة الدرزية (السورية جداً) سألت "اذا كان "الاسرائيليون" ما زال يرون في أحمد الشرع أبو محمد الجولاني، بماضيه الارهابي "المجيد"، فلماذا ضربوا محيط القصر لا القصر" ؟في نظرها ان المسرحية التي تجري أمامنا الآن تقضي بذلك، لأنهم لن يجدوا أفضل من التركيبة الحالية لتمزيق سوريا قطعة قطعة. بكل تلك الصفاقة قال نائب من حزب "الصهيونية الدينية" "لندع تلك القبائل الهمجية تأكل بعضها البعض"!
في ختام الكلام، تطلق السيدة اياها صرخة في وجه أركان الادارة الجديدة "اخرجوا هؤلاء الوحوش من الشوارع، ومن المؤسسات الأمنية، وابعثوا بهم الى جهنم". ولكن ما البديل ؟ سورية، وكما توقعنا منذ اليوم الأول للشرارة التي اندلعت من درعا، وتم التعامل معها بمنتهى الغباء، دخلت في الدوامة الأبدية. أحد أركان المعارضة السابقة قال لنا "حين كنا في أسطنبول،كنا نشبه أكياس القمامة على أرصفة المدينة. الآن، ونحن في بيوتنا في دمشق، نشعر وكأننا في قبورنا".
سوريا الواحدة لن تعود. اذا قيّض لها أن تعود فليس بأيدي من فتحوا الأبواب على مصراعيها أمام بنيامين نتنياهو... !!