<
17 April 2021
يوسف بك كرم في المنفى (بقلم غسان مكاري)
الجزء الثاني
 
المرجعية: المؤرخ الأهدني سمعان الخازن
دور البطريرك بولس مسعد في ابعاد كرم عن لبنان
 
تم تعيين فرانكو باشا متصرفآ جديدآ للبنان في ١٥ تموز ١٨٦٨ خلفآ لداوود باشا، وكان صديقآ حميمآ ليوسف بك كرم. وقد نشأت
هذه الصداقة يوم رافق فرانكو وزير الخارجية فؤاد باشا في زيارته لبنان اثر حوادث ١٨٦٠، إذ كان سكريترآ للوفد التركي.
 
وما ان علم كرم بتعيين صديقه فرانكو باشا متصرفآ على لبنان حتى اهتزت جوارحه غبطة، اعتقادآ منه أن فرانكو لن يتقاعس
عن درس قضيته وانصافه، مما يسهل عودته إلى لبنان. فكتب لصديقه المطران يوسف الدبس يكلفه بتقديم التهاني باسمه
للمتصرف الجديد، مؤكدآ له انه اذا احب فرانكو باشا أن يحل قضية كرم حلآ عادلآ ويسهل له عودته إلى لبنان فآنه أي كرم يقوم
بكل ما يفرضه واجبه الوطني تأييد الشرائع والنظام والخضوع لكل سلطة شرعية عادلة.
 
اضمحلت الآمال التي عقدها كرم على صداقة &quot;فرانكو افندي&quot; وزالت من الوجود لأن هذا الأخير لم يعد الرجل المتدين العادل
الذي كان كرم يرتاح لمحادثته والاجتماع به في الاستانة، يوم ابعد كرم لثلاث سنوات في ١٨٦١، بل أصبح &quot;فرانكو متصرف
لبنان والحاكم بأمره&quot;...
 
بقي كرم حوالي السنة تقريبآ في روما بناء على إلحاح أصدقائه آملإ منهم بأن المفاوضات الجارية بين باريس والباب العالي بشأن
انصافه وعودته الى لبنان ستقترن بنتائج مرضية. ولكن هذه الآمال قد خابت، فعقد كرم النية على دخول لبنان على رأس حملة
عسكرية وقلب الحكم بالقوة. فتعرف على شخصيات بارزة من اليونانيين والايطاليين وفاوضهم بشأن تجهيز حملة عسكرية على
لبنان، ووضعت اسس هذه الحملة على ان تنفذ بنودها في اليونان والانطلاق الى لبنان من جزيرة كورفو التابعة لها.
 
غادر كرم روما في ٢٣ ايلول ١٨٦٩ قاصدآ جزيرة كورفو. ولم يمض القليل على وجوده حتى بلغه خبر وفاة خصمه اللدود
داوود باشا في اوروبا.
وكان ان قضى داوود مدة في الاستانة منزويآ في منزله نادبآ بمرارة ما اوصله اليه غروره من خيبة آمال ومن سخط الباب العالي
عليه، متذكرآ العز والجاه والسلطة المطلقة والنفوذ والعظمة التي رافقته في لبنان طيلة ٧ اعوام، لا يرد له مطلب، يأتمر الأعيان
والجنود بأمره...
 
وكان الباب العالي يفتش على شخصية تحسن اللغات الأوروبية لعقد قرض مالي كبير مع الدول الأوروبية، فإنتدب فؤاد باشا
صديقه القديم داوود لإجراء هذه المهمة.
ذهب داوود باشا الى أوروبا، وبينما كان يجري معاملات هذا القرض اتهمه خصومه بتقاضي رشوة في عقد القرض، فأوجس
داوود خيفة من خصومه ولم يجرؤ على العودة إلى الاستانة خشية من إعدامه. وظل يتقلب على فراش الحزن ووخز الضمير في
بلاد الغربة طيلة سنة إلى أن وافاه الأجل المحتوم في ١٨٦٩، فقضى نحبه بعيدآ عن أهله ومحبيه.
 
أن العدالة الالهية شاءت أن تنزل القصاص بذلك الذي استعمل كل ما لديه من ذكاء ومكر ودهاء للقضاء على يوسف كرم
والصاق به التهم الباطلة...
 
عكف كرم على تهيئة الحملة العسكرية على لبنان لدك اسس نظامه الفاسدة، فإتصل ببعض النافذين اليونانيين من قواد الجيوش
البرية والبحرية. وتألفت لجنة تعهد أعضاؤها بالحصول على قرض من المال، بعد ان عرض كرم عليهم رهن املاكه في لبنان
لتمويل الحملة، وبتهيئة الذخائر والمعدات اللازمة وجمع المتطوعين من اليونان والبانيا وتجهيزهم بالأسلحة والالبسة الحربية.
 
ولما كان جنود هذه الحملة يجهلون طبيعة الأراضي اللبنانية، فقد طُلب من كرم استقدام من لبنان نفرآ من رجاله الخبيرين
بالأرض فينتظروا الحملة في مصر، على ان يسيروا أمامهم ككشافة.
فكتب كرم في اواخر ١٨٦٩ إلى صديقه المطران دبس ليهتم مع الشيخ يواكيم باخوس من غزير لإرسال ٢٥ نفرآ من رجاله
البواسل إلى الإسكندرية بأسرع وقت ممكن. فجمعوا سرآ الرجال وأقاموا بطرس نمنوم رئيسآ على المتطوعين الاهدنيين، وسليم
ابو شبل البشراني على المتطوعين من الجبة، وسمعان عقل الكسرواني على المتطوعين من كسروان. جأ هؤلأ الى الاسكندرية
وكان بانتظارهم الخوري الماروني بطرس المكرزل المقيم في الإسكندرية، وأقاموا شهرين بانتظار مجيء الحملة العسكرية.
وكان ان حضر إلى الإسكندرية من لبنان الخوري مخائيل رحمة من بشري، وما ان علم بوجود هؤلآ الرجال في الإسكندرية أخذ
يحضهم بالعودة الى لبنان وهددهم بأن يوشي بهم الى السلطات المصرية. ولما رأى الخوري مكرزل في موقف رحمة الغريب
وتشبثه برحيل رجال كرم، وخوفآ من الوشاية، وراحة لضميره، أقنع رجال كرم بالعودة إلى لبنان.
 
منيت الحملة العسكرية التي شغلت كرم مدة سنتين تقريبآ بالفشل بعد ان بذلت جهودآ جبارة لتحقيقها للأسباب التالية:
١- لم يجد أعضاء اللجنة المال اللازم لسد نفقات الجيش، كما لم يجدوا عددآ كافيآ من المتطوعين الأجانب لرفضهم القتال في بلاد
بعيدة.
٢- الانكسار الفظيع الذي منيت به فرنسا في حربها مع المانيا في ١٨٧٠ جعل كرم يؤجل الحملة العسكرية.
٣- علمت الدولة العثمانية بالحملة فبثت العيون والارصاد واصدرت الاوامر بمراقبة الشواطيء اللبنانية.
 
عاد كرم إلى روما في أوائل ١٨٧١ واستدعى من لبنان ابن اخيه بطرس مخائيل كرم ليقوم باسمه ببعض المهام في الاستانة
وباريس ويساعده في تنظيم التقارير باللغة الفرنسية.
 
في تلك الأثناء كانت قد انهارت الإمبراطورية الفرنسية وقامت على انقاضها حكومة جمهورية برئاسة المسيو تيير فرفع كرم إلى
رئيسها تقريرآ عرض فيه المظالم التي لحقت به ورغبته في العودة إلى وطنه...
لم تخب آمال كرم هذه المرة، فبعد أن اطلعت حكومة فرنسا الجديدة على تقرير كرم، اوعزت إلى سفيرها في الاستانة أن يهتم
بقضية كرم كي ينال حقوقه. وقد اطلع السفير بدوره الباب العالي على طلب كرم.
لم تمانع الحكومة التركية طلب كرم ولكنها اخضعت قضيته إلى غبطة البطريرك الماروني بولس مسعد والاستماع إلى رأيه في
هذا الصدد. بدوره اوعز السفير الفرنسي في الاستانة الى القنصل العام الفرنسي في بيروت أن يذهب إلى البطريرك الماروني
ويأخذ برأيه بشأن عودة كرم. التقى القنصل البطريرك الذي اجابه بأن عودة كرم إلى لبنان غير مناسبة ومن شأنها أن تثير
حوادث واضطرابات في البلاد.
 
يقول كرم في هذا الصدد: &quot;ان يقول غبطة البطريرك بأن عودتي غير مناسبة فهذا الجواب مفعوله كمفعول حكم صدر بحقي، ومن
حقي أن التمس من الكرسي الرسولي ان يتنازل ويطلب الى غبطته ان يبين حيثيات حكمه والأدلة والوقائع التي بنى عليها حكمه
المذكور، او ان يرجع عن هذا الحكم بعد ان يدفع لي التعويض عن الاضرار التي لحقت بي بسببه.
زعم غبطته بأن رجوعي إلى لبنان من دون موافقة المتصرف قد تثير اضطرابات في البلاد، فزعمه هذا هو الذي يثير وحده
الاضطرابات في لبنان ويشجع المتصرف على خرق الشرائع الإلهية والبشرية وارتكاب المظالم والنكبات... فليتفضل البطريرك
ويعلمنا عن اية شريعة او قانون بنى حكمه القاضي علي ان اعيش بعيدآ عن وطني لبنان وان اترك وطني فريسة لأهواء
المتصرف؟ فاذا كانت شريعة القوة يلذ احيانآ للفاتحين استعمالها فإن شريعة الإبهام لم يلذ لأحد استعمالها. واذا كان السفير
الفرنسي طلب رأي البطريرك بشأن عودتي إلى لبنان، فلإعتقاده انه يجد بشخص غبطته ذلك الحاكم العادل. واذا كانت فرنسا قد
احترمت حتى ذلك التاريخ الاحكام التي كان يصدرها هذا الحبر بشؤون الموارنة فأنها كانت تعتقد فيه الغيرة وسداد الرأي. واذا
كانت المظالم قد تكاثر عددها في لبنان، فلأن أسبابها كانت تصدر عن تصريحات وآراء البطريرك مسعد المغلوطة الجائرة&quot;.
 
لم تكن ترضى فرنسا، بالرغم من استعداداتها الطيبة، ومجاملة للباب العالي، بعودة كرم إلى لبنان من دون موافقة الحكومة
التركية، خوفآ من تسبب هذه العودة اضطرابات في لبنان. كذلك تركيا، مجاملة للحكومة الفرنسية، لا تعارض مبدئيآ عودة كرم
الى لبنان بعد ان تخضع موافقتها للحكومة الفرنسية وبعد أخذ موافقة البطريرك مسعد. وهكذا كانت تركيا تريد أن تبرهن من جهة
لفرنسا عن نواياها الشريفة نحو كرم وحبها للسلام، ومن جهة أخرى تتمسك برأيي البطريرك الماروني قبل الموافقة على عودة
كرم إلى لبنان. واذا كانت تركيا قد علقت اهمية كبرى على رضى البطريرك ام عدمه بشأن عودة كرم إلى وطنه، فلأنها كانت
تعلم نوايا غبطته واستعداداته العدائية نحو كرم. ولولا ذلك لما كانت اخضعت قضية عودة كرم لرأي البطريرك الماروني.
 
كان يوسف كرم يناضل دومآ في سبيل تأييد فصل السلطتين الروحية والزمنية، ويقول أن البطريرك الماروني، بصفته رأس
الكنيسة المارونية، يجب الا يهتم الا بالشؤون الكنسية، وأنه في هذه الصلاحية فقط يبقى صاحب السلطة والمقام الرفيع وعلى
الجميع أن يؤدوا له الاحترام والطاعة. بيد أن الأصول المتبعة في البلاد الأوروبية وغيرها، تلك الأصول التي وضعت اسسها
الشعوب الراقية على إثر الأضرار والهفوات التي ارتكبها رجال الاكليروس بسبب مداخلاتهم بالسياسة والقضايا الزمنية، يمنع
على البطريرك أن يحتكر بيده السلطة الزمنية علاوة على احتكار السلطة الروحية، وأنه اذا احوجته الضرورة يومآ أن يتدخل في
الشؤون السياسية التي تتوقف عليها مصالح البلاد والأمة، وجب عليه قبل الادلأ برأيه فيها أن يتداول مع اعيان البلاد وقادة
افكارها ويطلع على آرائهم بشأنها، ومن ثم يجري ما اتفقت عليه هذه الآراء، لأنه من الحيف أن تبقى هكذا قضايا خطيرة يتلاعب
بقدراتها وبمقدرات امة كبيرة رجل واحد معرض للخطأ والهفوات نظير كل إنسان يتفرد بفصل القضايا العامة حسب ميوله
واهوائه.
 
ازاء المعاكسات التي صادفها كرم بشأن عودته إلى لبنان، اطلع السفير الفرنسي في الاستانة يوسف كرم على نتيجة طلبه بالعودة
إلى لبنان، وافهمه بأنه يستطيع اذا شاء الذهاب إلى قبرص والإقامة فيها. ولكن كرم رفض هذا العرض مفضلآ البقاء في روما.
 
أثار اخفاق مساعي كرم للعودة إلى لبنان غضبآ ومرارة في فؤاده، ومن يتصفح رسائله في تلك الحقبة يشعر بالألم الذي كان يحز
فؤاده حزآ.
يقول كرم في إحدى رسائله إلى المطران يوسف الدبس: ...&quot;نوهتم لي ابوتكم أن عودتي إلى لبنان دون إذن الحكومة التركية
يجعلني أن اجد الاكليروس ضدي... فإني بينما قد اتخذت المسؤولية على عاتقي وعاتق من يريد أن يرافقني من أي بلد أو مذهب
كان، وضحيت في سبيل ذلك مصالحي الشخصية، فعملي هذا يفتح أمام غبطة البطريرك بابآ واسعآ لإنهاض شرفه الذاتي وتوطيد
خير الموارنة الذين بصفتهم ٣/٤ سكان جبل لبنان، يمكنهم مع غبطته الا يقبلوا حاكمآ على لبنان الا من ينتخبه غبطته. فاذا كان
سعيي هذا الذي تقع نتائجه الخطيرة عليي وتعود منافعه الكثيرة الى غيري هو مرزول ولا يستحق التقدير العالي، فالاكليروس هو
معدن التسامح، ونحن جميعآ قادمون بسرعة إلى اليوم الأخير. ويا حبذا لو عرف الاكليروس كيف يجني ثمار جهادي بخدمة حق
الله وعباده!...&quot;
 
ولما لم يحصل كرم على محاكمة قانونية ولا على إجازة رسمية تخوله العودة إلى لبنان، عكف على تنظيم مذكرة طويلة عرض
فيها قضيته الواضحة وقضية ابناء وطنه وحالتهم المؤسفة وامتيازاتهم التي فقدوها، والاستبداد والمظالم التي حلت بهم، وما آلت
إليه حالته من جراء التماهي من داوود باشا متصرف لبنان حفظ الشرائع والدستور، والخلاف والمعارك الدامية التي نشبت بينه
وبين جيوش داوود، وما جرًت هذه المعارك من دمار، وكيف أن كرم حارب الاستبداد، والظفر الذي ناله على جيوش تركيا،
ومغادرته لبنان وأقامته في الجزائر وعواصم أوروبا، وما جرى له من جميل وقبيح.
 
نشر كرم هذه المذكرة باللغة الفرنسية في تشرين الأول ١٨٧١ بعنوان: &quot;مذكرة من يوسف كرم إلى حكومات اوروبا وشعوبها&quot;
طبعها في باريس وهي تقع في ٥١ صفحة بحجم كبير. وقد أرسل كرم نسخآ منها إلى ملوك دول أوروبا ورؤساء جمهورياتها
وحكوماتها ووزرائها والفاتيكان والاساقفة والكتبة واصحاب الصحف واصدقائه في لبنان والخارج.
وقد احدث نشر هذه المذكرة دويآ هائلآ في الأوساط السياسية الأوروبية وفي لبنان، إذ ان ما تضمنته المذكرة من حقائق راهنة قد
مزق الستار واظهر للعيان شقاء اللبنانيين وضياع استقلالهم، واعمال متصرفي لبنان الاستبدادية والسياسة الغاشمة التي سار
عليها بعض قناصل الدول الاوروبية في لبنان...
 
وكان المطران الدبس، صديق كرم الحميم، اطلع البيك على التأثير السيء الذي صادفته مذكرته في الاوساط السياسية في لبنان
والبطريركية المارونية والقاصد الرسولي والقنصل العام الفرنسي، وأبدى الحبر الجليل لكرم مخاوفه الناجمة عن هذا التأثير والتي
قد تضر بكرم وتؤخر عودته إلى لبنان.
 
يقول المطران الدبس في رسالته إلى كرم: ...&quot;اغتنم أرباب المفاسد ما حررتموه في مذكرتكم عن القاصد الرسولي وقنصل فرنسا
ليرموكم بالمطاعن والعمل لقطع رجائنا من مشاهدتكم في لبنان.
كنا نفضل أن تقبلوا كل ما ترغبه الحكومة من الشروط لعودتكم التي طال امدها، بدلآ من تناقشوها الحساب وتبينوا اغلاطها.
والذي أفعم فؤادنا حزنآ أن ابناء الوطن لا يقدرون اتعابكم وتضحياتكم المتواصلة في سبيل الدفاع عن مصالحهم لأنهم في فتور
كبير ولا احد يدرك ما تشعرون به!&quot;.
 
اجاب كرم صديقه:.. &quot;كيف لحاكم لبنان ان يتصرف بنا كيفما شاء دون أن يقف على الحدود القانونية المرسومة. فهل أن العبودية
السودانية هي غير ذلك؟ لو كنت في لبنان لاظهرت له حال وجود هكذا حالة. فكيف يمكنني إذآ أن اعود إليه مسلمآ عنقي لهذه
العبودية؟... غاية الرجاء أن لا تضيعوا مرتبة الصبر والثبات المختصة بشخصكم وأن تفضلوا معي موتي في الغربة على تعبدي
للأميال البشرية التي هي الموت الأدبي...&quot;
 
في تلك الآونة توفي المتصرف فرانكو باشا بعد ان قضى في الحكم ٤ سنوات ونصف، فتم تعيين رستم باشا خلفآ له في ٢٢
نيسان ١٨٧٣.