<
08 April 2021
ثورة الجنرال: ختيار بعبدا من أجل شباب لبنان (بقلم جوي جرجس)

"أنا ميشال عون، رئيس الجمهورية، أنا ميشال عون الجنرال للي بتعرفوه" .. 

هكذا توجه الرئيس الجنرال الذي انتظره محبوه بإطلالته الاعلامية الأخيرة، لكل اللبنانيين، طالباً منهم لا أن يكونوا معه بل أن يكونوا مع أنفسهم ومع مستقبل أبنائهم، لاسترجاع الحق من خلال معركة التدقيق الجنائي و"لاحقين نختلف بالسياسة".


كلام الرئيس لم يمر مرور الكرام عند العونيين، فامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتغريدات ومنشورات وكتابات عبّروا من خلالها عن تأثرهم العاطفي بتعابير الجنرال الأخيرة ورسالته لهم، كما بتأييدهم الفكري والعقلي لكل ما ورد بخطابه من توجهات وتحميل مسؤوليات ومناشدات، وانتقلوا بعدها إلى الشارع مزينين الطرقات بوفود سيارة كثيفة و الزمّور الشهير تأييداً لجنرالهم ومواقفه.


إنه جنرال المعارك الصعبة، يخسر بعضها لكنه يربح الحرب آخراً ولو بعد عذاب ونضال وتعب سنوات طويلة. هكذا خاض حرب التحرير وهكذا يخوض حرب التحرر منذ عودته من المنفى. 

في حرب التحرير انكسر لكنه لم ينهزم، خسر معركة عسكرية بوجه تحالف دولي ضخم وترسانة عسكرية وطائرات حربية بمعركة غير متكافئة، ولم يستسلم بعد انكساره في ١٣ تشرين، بل ناضل وثابر واستمر بالحرب من الخارج بكل الوسائل الضاغطة المتاحة، ومن الداخل من خلال شباب مناضلين آمنوا به كمخلّص للبلد وخاضوا عذابات وتضحيات كبيرة بمواجهة قوى الإحتلال وأدواته وسلطات الأمر الواقع القمعية. 

خرج جيش الاحتلال السوري من لبنان في نيسان عام ٢٠٠٥، وعاد الجنرال المناضل في السابع من أيار، معلناً انتصاره بحرب التحرير وبداية حرب التحرر، التي وصفها بالأصعب. نضاله لم يقف عند لحظة الجلاء، بل فاض سياسياً بحرب طويلة بدأت بإتحاد القوى السياسية ضده لإلغائه في انتخابات ذاك العام، وانتصاره بجمع كتلة نيابية وازنة مع تمثيل وطني ومسيحي كبير لم يشهد له أي زعيم او قائد سياسي لبناني سابق؛ ثم بعزله وتأليف حكومة جامعة للكل دون فريقه، ثم بانتخابات رئاسية أتت بالضعيف ميشال سليمان رئيساً مع تخطي أحقية عون بالموقع عوّض جزءاً منها بكسب قانون انتخابي خارج محدلة قانون غازي كنعان التهميشي السابق وفرض نفسه بتمثيل مقبول وعادل حكومياً كشريك في السلطة لا يمكن تخطيه في أي حكومة. 


قاسية هي معركة التحرر حين تكون من داخل نظام ومنظومة أقوياء وثابتين؛ نظام مبني على دستور الطائف، اتفاق الطائف نفسه الذي حاربه عون بكل قوته قبل أن يصبح دستور الأمر الواقع والمفروض على الجميع، والمنظومة التي أنتجها ذاك الاتفاق ونقل فيها أمراء الحرب من موقع قادة ميليشيات إلى موقع حكام سياسيين أمسكوا بكل مفاصل الدولة من أصغر الموظفين إلى أعلى مراكز المدراء العامين والوزارات والادارات، وشكّلوا شبكات فساد مترابطة وقوية ممسكة بكل مؤسسات الدولة.

هؤلاء لم يتركوا خراباً إلا وحضّروه، فقاموا بإرتكابات مالية تدميرية، من استدانات بالمليارات مع فوائد ضخمة غير قابلة للتسديد، ووضع اليد على أملاك الناس في وسط بيروت وتحويلها لمشاريع خاصة استثمارية تجارية على حساب حقوق المالكين المسلوبة، وخلق صناديق ومجالس مختصة بهدر الأموال العامة والمشاريع المسنودة بصفقات وتنفيعات وعمولات وزبائنية، وتحويل اقتصاد لبنان إلى ريعي غير منتج ...

تراكم الدين العام واستمر نهج المنظومة مع سياساتها المالية وأدواتها في الحكم ومفاصل الدولة رغم دخول التيار الوطني الحر إلى الحكم كشريك في السلطة.

كان عليه أن يحارب المنظومة من الداخل كما فرض عليه الالتزام بدستور النظام التوافقي المانع لأي تغيير جذري. حاول الانجاز من خلال وزارات وحقائب استلمها فريقه ووضعت كل حواجز الانجاز أمامه لأنه ممنوع عليه أن يغيّر ما بناه الآخرون متحدون متوافقون. استمر بنضاله لسنوات إلى أن فرض نفسه على المنظومة الحاكمة كرئيس للجمهورية بموافقة وشراكة وتسوية مع عدة أطراف منها.

طبعاً كان يعلم أنه لا يمكن له أن يصل بدون تسوية سياسية معهم، ولا أن يحكم دون وجود تسويات. تسوياته كانت مختارة بدقّة لئلا يقدّم أي تنازلات جوهرية في حربه التحررية.

رغم التسوية السياسية رفض مع بداية عهده عرض تصفير أرقام المالية وحساباتها، وأصرّ على مضمون "الإبراء المستحيل" وما نتج عنه من قوانين في المجلس النيابي، وموازنات بدأت في عهده الرئاسي بعد سنوات طويلة من عدم وجودها، وقطع للحساب أنجز في المالية بعد إصرار ومجهود كبير وتحوّل إلى ديوان المحاسبة مع ظهور رقم ٢٧ مليار دولار من الأموال المخفية بانتظار إظهار أرقام هدر وفساد أخرى لم تظهر بعد في الحسابات. نعم أنجز ميشال عون في عهده بعضاً مما كان يطمح له، لكن المنظومة لم تخضع ولم تستسلم. قوانين محاربة الفساد التي بدأ بتقديمها كاقتراحات للمجلس النيابي، بقيت في جوارير المجلس ولجانه لسنوات طويلة، ولم تقرّ المحكمة المالية التي تقدم بمشروع قانون خاص بها، وكذلك العديد من مشاريع القوانين التي قدمها التيار خلال كل فترة حرب التحرر.

سرعة الانهيار كانت أكبر من سرعة بناء او ترميم ما يتهدم، خاصةً ان قوى المنظومة نفسها لا زالت تمسك بكل المؤسسات ولم تسلمه السلطة كاملةً ليحكم بالتغيير الفعلي والشامل.

وقع الانهيار المالي بالتزامن مع ثورة أو حراك في الشارع شل اقتصاد البلد ومؤسساته وسرّع بالانهيار الكبير. حاول الرئيس الانقاذ من خلال حكومة يرأسها شخص من خارج المنظومة ومعه فريق من الوزراء التكنوقراط، لكن التشكيلة الوزارية كانت ملغومة بالولاءات السياسية المانعة للتغيير.

سقطت حكومة الأمل بالتغيير لتعود القوى السياسية بتكليف أحد عناصر المنظومة لترؤس حكومة الانقاذ، رغم محاولات الرئيس المتكررة بتجنّب هذا التكليف عبر تأجيلات عدة للدعوة للاستشارات النيابية الملزمة. لكن للأسف فالمنظومة ممسكة بالمجلس النيابي، وتأتي بمن فيها للموقع بطبيعة الحال، ونقف اليوم أمام عجزه عن تأليف حكومة وسعيه لتأليف مجلس وزراء عبارة عن مجلس إدارة أعضاؤه أدوات عنده وعند شركائه في المنظومة.

قدّم الرئيس عدة تنازلات لتسهيل التأليف بما أن البلد بوضع لا يحتمل البقاء دون حكومة، أياً تكن، دون الوصول لنتيجة إيجابية حتى الآن.

وحدها معركة التدقيق الجنائي، التي استطاع فرضها من خلال حكومة حسان دياب، رغم كل العراقيل ومحاولات قتلها قبل وخلال مراحل ولادتها، تبقى أمله بخلق محاسبة فعلية أمام الرأي العام لتكشف مصدر الفجوة المالية في المصرف المركزي والهدر والفساد والتوزيعات والتهريبات والتنفيعات والتحويلات. هو يعلم أن التدقيق الجنائي لا يعني المحاسبة القضائية لكنه كشف لكل الأوراق أمام كل اللبنانيين كي يقوموا هم بمحاسبة من أودى بهم وببلدهم إلى الإنهيار المالي والاقتصادي ومن سرق أموالهم وودائعهم وتصرف بها بحسب مصالحه.


أمام الرئيس عون طريق صعب لتحقيق التدقيق الجنائي وكشف المستور على أمل المحاسبة الشعبية والقضائية، وطريق أبعد قد يكون قريب إذا تسبب الانهيار الكبير بسقوط النظام التوافقي العاجز والانتقال لنظام جديد يطيح بأمراء الحرب وحيتان الفساد المالي ويأتي بنهضة سياسية وإقتصادية ومالية بعد جلجلة طويلة من معاناة الشعب. إنه "ختيار بعبدا المناضل"، إنه "الجنرال" الذي نعرفه، لن يأخذوا توقيعه لا على توطين اللاجئين الفلسطينيين ولا على تجنيس النازحين السوريين ولا على التنازل عن حقوق لبنان الحدودية والنفطية ولا عن معركة التدقيق الجنائي ولا عن مشروع نظام جديد ينقلنا للجمهورية الثالثة والدولة المؤسساتية العادلة. 

لا يتعب ولا تتعب قاعدته الشعبية من النضال للوصول إلى الهدف، وكما انتصر بحرب التحرير بعد سنوات سينتصر بحرب التحرر لو مهما طالت مدتها، من أجل مستقبل شباب لبنان.


ميشال عون، الجنرال، هو الثورة الفعلية، ثورة شعب لبنان العظيم الممثلة بشخص، ثورة النظيف على الفاسدين، ثورة البريء على المرتكبين، ثورة الآدمي على الزعران، ثورة الرئيس على المنظومة، ثورة لبنان الغد على شبكة الدمار.