<
22 January 2021
تأليف الحكومة معلّق في ظلّ اندراج سعد الحريري في الحرب على العهد (بقلم جورج عبيد)

بقلم جورج عبيد -

 

 يخطئ من ظنّ ويظنّ بأنّ عدم تأليف الحكومة مأسور بخلاف شخصيّ بين رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، بل هو خلاف جوهريّ وعميق، فيعسر التأليف وتتعثّر المبادرات وترتطم بحائط سميك تتداخل فيه العقد الداخليّة من ناحية، والتحوّلات الخارجيّة من ناحية ثانية، بمعانيها المحتدمة وأبعادها الملتهبة وتوجهاتها المتباعدة ومنطلقاتها المتشنجّة وسياقاتها المتصادمة ورهاناتها المتصلّبة.
ليس الخلاف بداءة مفصومًا عن تاريخ ورثناه ولا زلنا نعيش ثقله. كان فيودور دوستيوفسكي الأديب الروسيّ العظيم يقول في روايته الشهيرة "الإخوة كارامازوف" Brothers Karamazov "إنّ عبء الحريّة ثقيل"، لكون نيلها يحتاج لفداء كونيّ. غير أن التاريخ أحيانًا يصبح أثقل إذا لم تستطع إبادة الشرور وتنظيف الوسخ من جوفه ورحابه.


لا بدّ من التكرار هنا بأنّنا رازحون تحت ثقل حريرية سياسيّة لم يسع سعد الحريري إلى التحرّر من خطاياها، ولم يخطّط لقيادة مرحلة "تلاقي الوجدانات الطائفيّة الثلاث بأكثريتها المطلقة" إلى مشروع إحيائيّ وانبعاثيّ لوطن جديد يتوثّب للوجود بفعل ترسيخ الصلاح الكامل في دولة، دمّرها رفيق الحريري مع شركائه، بإفساد مؤسساتها، وإفراغ خزينتها، وانتزاع حقوقها، وتملّك وسط عاصمتها، وتحويل اقتصادها من منتج إلى ريعيّ. فتغيّر وجهنا المضيء في العالم، وتحولنا إلى بلد متسكّع وشعب متوسّل، وأمّة متسوّلة على أعتاب مؤسسات مصرفيّة وعالمية كبرى وعلى أعتاب دول تشترط علينا أن نكون ضمن وصايتها. وقد مثّل رياض سلامة دور جون بيركنز في القتل الماليّ في المرحلة الأخيرة من الأزمة وهو لا يزال مطلاًّ من قلب ذلك التاريخ. لا بأس وفي هذا السياق من دخول سويسرا على الخطّ. فالعلامة بدأت تتضّح، والأميركيون قد بدأوا يعدّون العدّة للإيقاع به، وحين شعر بذلك اتصل بقناة France 24 ودعاهم إلى حديث معه حيث أعلن بأن وضع الليرة في خطر. لا يمكن للدولة السويسرية أن تتحرّك بلا معلومات، فالمطر والثلج لا ينهمران بلا غيوم، والإيعاز واضح.


نعود إلى التأليف لنعلن تعثّره بسبب ثقل هذا التاريخ عينًا على العهد، وبسبب أن وصلنا إليه من نتائج متدحرجة ومخيفة مربوط ومنطلق من ذلك التاريخ عينًا، ومن دور أميركيّ لا يزال بحدود واضحة متحكّمًا ومشرفًا ومشترطًا. وسعد الحريري منذ ما قبل 17 تشرين الأول 2019 وضع نفسه في تصرّف الإدارة الأميركيّة وتوجيهاتها، فيما الأميركيون مع السعوديين لا يعيرانه أيّ اهتمام.


في الجانب الداخليّ للخلاف، يأخذ العهد على سعد الحريري هتكه للميثاقيّة بإطلاقيتها وواقعيتها. وهذا المأخذ معطوف على بداءة انطلاقته في 31 تشرين الأول سنة 2016، حين ساد البلاد اتفاق جليّ تمثّل بأن يمثّل الرئيس سعد الحريري الوجدان السنيّ بغالبيته المطلقة في موقع رئاسة الحكومة كما مثّل العماد ميشال عون الوجدان المسيحيّ بغالبيته المطلقة في موقع رئاسة الحكومة، فتجدّد الميثاق وتوثّب بهذا الاتفاق. وجزء من هذا الاتفاق، وكما يعرف الحريري نفسه، قام على بناء الدولة الحقيقيّة بإصلاحها وصلاحها وترميم ما تهدّم من مؤسساتها.


مشكلة الحريري مع العهد، أنّه لم يكن لبنانيًّا في الداخل والخارج، بقدر ما بدا سعوديًّا وأميركيًّا، في وقت جافته المملكة حتى احتقرته واختطفته وآذته، وكاد أن يلقى مصيرًا قاتلاً لو لم يدخل سيد العهد بثقله الوطنيّ والدوليّ إلى جانب رئيس جمهورية فرنسا إيمانويل ماكرون، ويلوّح بالفعل بأن لبنان سيرفع دعوى بوجه المملكة بتهمة خرقها سيادة لبنان السياسيّة والقانونيّة باحتطافها لرئيس حكومة لبنان.


ومع ذلك بقي الحريري يوالي من آلمه وعذّبه واحتقره على حساب من أكرمه وحرّره بحبّ كبير وعلى حساب وطنه وكرامة عهد اعتبره جزءًا منه. الحريري ترأس حكومتين خلال العهد فليدلّنا على أيّ إنجاز قام به، بل كان دائم التعثّر والتبعثر مع نفسه والآخرين، بل دائم التلاشي في بيئته، متمسكنًا أمام من سفكوا دم لبنان، ومستدخلاً أشخاصًا استنهضوا أنفسهم في ثقافة الصفقات المقيتة وهم من زبائنيّة أبيه.


بل على العكس تمامًا، فإنّ سعد الحريري، تشدّد أكثر من موقعه كرئيس للحكومة في حماية الفاسدين ومنع محاكمتهم والوقوف بوجه التيار الوطنيّ بالتحالف التام مع الرئيس نبيه برّي وليد جنبلاط ونادي الحكومات السابقين في لحظات المساءلات حول من سرق خزينة الدولة والفساد. لم تلحظ التسوية الأولى مع سعد، كما حاول بعضهم الإيهام بالإبهام، إعفاء الحريريّة السياسيّة في كل مراحلها من المساءلة القضائيّة وإعادة ما استلب من الخزينة، وهو حقّ للبنانيين إليها. فيما حماية الفاسدين كانت همًّا كبيرًا عند سعد الحريري بدءًا من حاكم مصرف لبنان إلى مجموعته.


لقد ثبت، ومن دون أيّ التباس، دور سعد الحريري في ثورة 17 تشرين الأوّل، ومسألة وضع ضريبة على الواتس آب كانت مفتعلة من قبل وزيره محمد شقير وبالتنسيق مع الإدارة الأميركيّة، كمقدّمة فعليّة للبدء بحربها الماليّة والاقتصاديّة على لبنان. لا يمكن الزعم بأنّ سعد كان بريئًا بل ضالع بشكل واضح. لقد كان العهد على دراية واضحة بدوره، وما تقديم استقالته بعد أسبوعين من الثورة سوى اندراج في الحرب الأميركيّة على لبنان وبالتحديد على العهد.


لقد كان المساهم الأساسيّ في تهريب ودائع الناس إلى الخارج بالتكافل والتضامن مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعيّة المصارف سليم صفير، وهو المساهم بدوره في رفع سعر صرف الدولار ضمن مشروع القتل الماليّ للبلدـ إلى جانب رياض سلامة ونقيب الصرافين مع حلفائه من الطبقة السياسيّة الفاسدة، وهو المساهم بتحريك القطاعات الأساسيّة في لبنان كالنفط والأدوية والغذاء إلى جانب مصرف لبنان والمصارف واحتشادهم في حرب ضروس على العهد، واستعمال لقمة الناس ودوائهم ومالهم كأوراق ضغط تحفزّهم لكي يخرجوا بهجوم مركّز على العهد وسيّده ضمن اتهام واحد بأنّ العهد هو المسؤول عن تجويع الناس وإفقارهم.


والمثال الأقرب إلى ضلوعه بشكل مباشر مستغلاًّ غياب السلطة القضائيّة، حين زار قبل عيد الميلاد بيومين قصر بعبدا، وقبله بيوم. ففي الزيارة الأولى قبل الميلاد وعد الحريري بولادة الحكومة في العيد، لينخفض سعر الدولار 450 ليرة لبنانيّة، وحين بطل كلامه وظهرت وعوده العرقوبيّة في الزيارة الثانية قبل عيد الميلاد معلنًا تأجيل التشكيل إلى بعد رأس السنة عاد الدولار ليرتفع 450 ليرة لبنانية، ولا يزال مستمرًّا بالصعود، ألا يشي ذلك بأنه ضالع ضلوعًا مباشرًا في اللعب على الوتير المعيشيّ والماليّ للناس حتى يرضخ العهد والمواطنون لمطاليبه، ويؤلّف حكومة لا يراعي فيها الأبعاد الميثاقيّة بتجلياتها الصافية؟!


الخلاف ليس شخصيًّا بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة بل أبعد بكثير. إنه خلاف حول المبادئ، المشوبة بشكوك حول رهاناته. فرئيس الجمهوريّة متمسّك بالأبعاد الاستراتيجيّة الضروريّة في ترتيب علاقات لبنان الخارجيّة ضمن مفهوم التوازن فيما رئيس الحكومة نظرته آحاديّة بالمطلق وينظر إلى الجوار المشرقيّ بعدائيّة لا يرتضيها لبنان في مسالكه لا سيّما مع سوريا، والعماد عون داعية وفاق عربيّ-عربيّ، فيما الحريري متناقض مع هذه الرؤية، الرئيس عون داعية التلاقي بين الشرق والغرب على أرض لبنان فيما الحريري غير متمكّن من هذا التحوّل، ويراهن على عطف سعوديّ عليه يؤهّله ليكون وجه الإسلام السياسيّ السنيّ، من دون نسيان أنه هو من انقلب على الورقة الفرنسيّة بمجرّد زيارته لتركيا.
والخلاف الداخليّ، أنّ الرئيس الحريري، لم يعتمد المعيار الواحد في التأليف. المعيار الواحد في مفهوم العهد والرئاسة تطبيق المناصفة الفعلية بين المسيحيين والمسلمين حتى في تأليف الحكومة، وهذا عينًا ما أكّدت عليه مذكّرة بكركي بتاريخ 5 شباط 2014 وهو قائم في المادتين 24 و96 من الدستور اللبنانيّ، وفيه يتألّف المجلس النيابيّ مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وينساب التأليف على التعيينات في الوظائف الأولى في الدولة، ومثله انساب على العلاقة بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة، ليبدو رئيس الجمهوريّة بهذا المعطى شريكًا حقيقيًّا، وليس عليه أن يقبل ما لا يتفق مع قناعاته ومع الشراكة الميثاقيّة الواردة في المذكرة وفي الدستور، وقد تحوّلت إلى عمود فقري لانبثاق العهد بالحكومتين الأولى والثانية مع سعد الحريري.


آن الوقت وبعد تلك المطالعة ليفهم المواطنون بأن سعد الحريري هو من:
1- يتلاعب مع شركائه بلقمة عيشهم.
2- يتلاعب مع شركائه برفع سعر الدولار الأميركيّ.
3- يحشد مع شركائه القطاعات كلّها في الضغط على العهد عن طريق حجب المواد الغذائيّة والأدوية وما إليها أو رفع أسعارها بطريقة فاحشة لازدياد منسوب الضغط.
4- يهتك الميثاق الوطنيّ برفضه تطبيق المعيار الميثاقي الواحد في التأليف المرتجى.
5- يرفض التعاون مع رئيس الجمهورية كشريك وهذا ما يرفضه الرئيس حتمًا وحكمًا.
6- يتناقض مع نفسه ويقود اللبنانيين كافّة إلى الضياع.
7- يراهن على مجموعة تغييرات استراتيجية لا سيّما في سوريا والعراق، حتى يكشف فيما بعد أوراقه.
ختامًا وبناء لما تقدّم التعاون سيبقى مفقودًا مع الرئيس الحريري، ولن يكون بمقدور اللبنانيين أن يشهدوا ولادة الحكومة في ظلّ ضربه للميثاق وحمايته للفاسدين ورهاناته الخارجية المجافية لدور لبنان المتوازن مع ذاته ومع الآخرين.