<
30 September 2020
بين خطابيّ ماكرون والسيد المبادرة الفرنسية راسخة وحرب الأميركيين على لبنان عنوانها نزع السلاح والاتجاه نحو التطبيع مع إسرائيل (بقلم جورج عبيد)

بقلم جورج عبيد -

ميزة خطاب السيد الأمين العام، أنّه كشف دور رئيس الجمهوريّة العظيم في إغلاق الباب على مؤامرة كادت أن تطيح بلبنان، وبرعاية أميركيّة، وأظهر عمق المؤامرة التي كادت أن تستهدف ثلاثة أسس وهي:
• صلاحيات رئيس الجمهوريّة في مدى الشراكة المؤسّس عليها النظام السياسيّ اللبنانيّ.
• دور الحزب كمقاومة جوهريّة عكفت على حماية لبنان بقوّة الحقّ، وبمنطق السلاح الردعيّ بوجه إسرائيل والقتال الاستباقيّ في سوريا وعلى الحدود معها.
• التماهي الجوهريّ بين العهد والمقاومة في معنى حماية لبنان، وتمتين الشراكة المسيحيّة-الإسلاميّة.وإذا ساغ الإيغال بعض الشيء في تمتين الشراكة بين المسيحيّة المشرقيّة والإسلام القرآنيّ، والتمتين حافظ لجوهر لبنان وضامن لديمومة المشرق.
فيما كان الخطاب يدويّ بهدأة النسيم وبلاغة اللغة وعمق التفسير وإيضاح الحقائق، كان بعضنا يتساءل، ماذا لو تسللت التشكيلة تحت جنح الليل ووقعها رئيس الجمهوريّة بتمنّ فرنسيّ مع ضمانات ستبدو على أرض الواقع لفظيّة وشكليّة، إلى أين كان يمكن للبنان أن يسير؟
أجاب فخامة الرئيس بكلمة واحدة لم يدرك السخفاء السطحيون أبعادها ومعناها وعمقها. نحن سائرون إلى جهنم، والجهنم فسّرت برؤية سيديّة مقاوِمة، بإشارة واضحة إلى من يخطفها ويحطمها، فقال: " على الفرنسيين أن يعرفوا أين أخطأوا خصوصاً في ما يتعلّق بشطب أهمّ ما تبقى من صلاحيات لرئيس الجمهورية... " رافضًا من زاوية شطب صلاحيات الرئيس "ما طرح علينا لأنه خطر على البلد وغير قابل للنقاش" وانطلق من مخاوفه على تلك المسلّمة الجوهريّة الضامنة للكيان اللبنانيّ متسائلاً: "هل كانت المبادرة الفرنسية تتضمن أن يقوم رؤساء الحكومات السابقون بتشكيل الحكومة وتسمية الوزراء؟" ليجيب وبوضوح تام: "ما عرض علينا خلال الشهر الماضي هو تسليم البلد إلى نادي الرؤساء السابقين، ومقاربة الملف الحكومي غير مقبولة في لبنان وهي مضيعة وقت أياً كان راعيها أو داعمها".
دقّة الكلام انطلقت من هاجس خطير ظهر في المرحلة الأخيرة من النقاش حول المبادرة الفرنسيّة وكيفيّة تجسيدها على أرض الواقع السياسيّ في لبنان. في البدء كانت رؤية الحزب إيجابيّة وواقعيّة، وظنّ كما معظم الأفرقاء بأنّ إيمانويل ماكرون إيجابيّ، وهو بالفعل إيجابيّ... حتى ظهر الخطاب الأميركيّ نافرًا ليس فقط من الصقور في الإدارة الأميركيّة بل من ديفيد هيل المعروف بإيجابيّته وطراوته وصداقته مع اللبنانيين، وقد تحوّل من الظهور الوسطيّ إلى الوجود المتطرّف حين قال بأنّه يرفض حكومة يتمثّل فيها حزب الله. إنكشاف الخطاب الأميركيّ بنفوره في مرحلته الأولى هيمن على التوجّه الفرنسيّ نحو لبنان، حتى برزت علامات شديدة بلغة عالية اللهجة مصدرها السفارة الأميركيّة في باريس تبلّغها وزير الخارجية الفرنسيّة جان إيف لودريان مفادها أن يتوقف إيمانويل ماكرون عن "حركته الاستعراضيّة" في بيروت، ويخلي عقله من حلم العودة إلى الانتداب الفرنسيّ.
لماذا الأميركيون متشددون، وهل فوّضوا الفرنسيين فعليًّا بتنظيم الحلول واجتراحها على المساحة اللبنانيّة؟
التشدّد الأميركيّ بجوهره حتمًا ومن دون أدنى شكّ وأيّ نقاش وبسياقه المتصل والمتواصل ما بين التاريخ والحاضر منتم إلى تعزيز مركزيّة إسرائيل في المشرق، ومن المشرق إلى الخليج. هدف حربهم الاقتصاديّة على لبنان وسوريا، وهذا ما أظهرناه مرارًا وتكرارًا في هذا الموقع وسواه، مجموعة أمور:
1. إسقاط "العهد المقاوم"، بكلّ ما يحويه من أبعاد ورؤى. فبمجرّد أن تحوّل ديفيد هيل من الوسطيّة إلى التشدّد حتى بان الهدف بكليّته. إسقاط "العهد المقاوم" هدف أميركيّ بامتياز وقد وضعوه نصب أعينهم.
2. إضعاف المسيحية المشرقيّة في لبنان مع محاولة إسقاط "العهد المقاوم". فهي حوت لبنان وسوريا والعراق وفلسطين بامتدادها. وإضعافها سيؤول إلى اتساع هجرة المسيحيين، وإلى فقدان الوجه المسيحيّ المقاوم لوجود إسرائيل الغاصب، فهي وكما قال المطران جورج خضر حبل بها بالإثم وولدت بالخطيئة.
3. بثّ فتنة مسيحيّة-مسيحيّة بالعمل على تموضع الفكر المسيحيّ اليمينيّ المتشدّد ودفع البطريرك المارونيّ لتبنّيه، وإظهار دور القوات اللبنانيّة كحزب رائد لهذا الفكر عينًا، وبثّه في إطار فتنويّ خطير في سبيل إسقاط "العهد المقاوِم".
4. تطويق المقاومة بهذه المساعي، والدفع بالمناوئين لها نحو الشارع تحت غطاء مواجهة التفلّت الاقتصاديّ والاجتماعيّ والماليّ والغذائيّ... وهذا ما كان يحدث منذ حركة السابع عشر من تشرين الأول الماضي من سنة 2019.
5. تحريض عدد من المتشددين المسيحيين للعمل على تمزيق ورقة التفاهم بمحموعة ضغوطات، فيفقد العهد هنا صفته المقاومة كما تفقد المقاومة التسويغ المسيحيّ لعملها وحربها على إسرائيل وعلى القوى التكفيريّة في سوريا.
6. ضرب مفهوم تلاقي الوجدانات الطائفيّة عبر من يمثّلها بالأكثريّة المطلقة، وتلاقيها الميثاقيّ مثّل القاعدة التسوويّة لانبلاج العهد بالشراكة مع الطائفة الشيعيّة والسنيّة الكريمتين بمن يمثلهما. وإلى الآن لم يتبيّن البديل بحال سقط هذا المفهوم وسحق.
7. إسقاط النظام السياسيّ اللبنانيّ برمته بموجب إسقاط الطبقة السياسيّة برمتها كما يبدو في أطروحتهم، وإيمانويل ماكرون لمّح إلى ذلك. ومع الملاحظات الشديدة على سلوكيات هذه الطبقة وهي مشبوهة، فإنّ الهدف ومع إتمام التطبيع الخليجيّ-الإسرائيليّ برعاية المتشددين في الإدارة الأميركيين وعلى رأسهم جاريد كوشنير، استبدال تلك الطبقة السياسيّة تحت صفة "الفاسدة" بطبقة تطبيعيّة تقود لبنان نحو التطبيع مع إسرائيل وتضغط على سوريا بهذا الاتجاه عينه.
سماحة السيّد عاين الموضوع وشخّصه بخطورته الشديدة، فأعاد الاعتبار إلى الورقة الفرنسيّة الإصلاحيّة لكون البديل عنها وكما قال المفكر أنيس نقّاش "ورقة أميركيّة-إسرائيليّة" ستتجسّد بطبقة سياسية تقود لبنان نحو التطبيع.
من هنا أهميّة تعويم الورقة الفرنسيّة وإعادة ترجمتها في التفاوض السياسيّ لتشكيل الحكومة. وقد أثبت السيد حرصه عليها في ذروة اللحظات المقبلة التي نحن بالغون نحوها. لكنّ السؤال المطروح هل إن إيمانويل ماكرون لا يزال على اللهب عينه في تبنّيها وتفعيلها مع معظم القوى السياسيّة، أو أننا سنشهد فتورًا كبيرًا في عمليّة التبنّي؟
تبدي مصادر مراقبة ملاحظة على حديث ماكرون في الشكل والمضمون، فتعرب بأنّ الحديّة الماكرونيّة ولومه المتشدّد دالّ على تخلّيه الواضح عن ورقته الإصلاحيّة لصالح الفوضى الأميركيّة المشتهاة على أرض لبنان. في الوقع ثمّة تفويض أميركيّ لماكرون للتحرّك في بيروت ضمن رؤية محدّدة ليس فيها أيّ اعتراف بموجودية الحزب وسلاحه ولا بتمثيله في الحكومة، وقد قال ديفيد هيل في حديثه إلى اللجنة الخارجية في الكونغرس الأميركيّ، بأنه يرفض حكومة يتمثّل فيها حزب الله.
لهذا تحركت السفارة الأميركيّة في باريس محذّرة من الذهاب بعيدًا في العلاقة بين فرنسا والحزب. تشدّد إيمانويل ماكرون ليس خاليًا من التحذير الضمنيّ، وظلّ واضحًا من ناحية أخرى بأنّ الحزب له فرصته ليوضح رؤيته النهائيّة.
لقد أجاب الحزب بوضوح كامل على لسان الأمين العام، ماذا يمكن لفرنسا أن تجيب؟ مهما كان الجواب، الأميركيون عاكفون وعامدون على تعزيز أهدافهم في المشرق العربيّ من لبنان ضمن جيو-بوليتيك جديد عنوانه تغيير الطبقة السياسيّة بأسرها والشروع نحو طبقة تكون مستعدة للتطبيع مع إسرائيل.
على هذا، الحرب وجوديّة بالكامل إلى أن تتضح الرؤى والخيارات. إحداها التوجّه نحو الشرق، وفتح طريق بيروت دمشق بغداد، وتحريض فرنسا من جهة ثانية على المضيّ بمبادرتها وعدم حصرها بلبنان، فسوريا جزء من تكويننا كما نحن جزء من تكوينها، والمبادرة إن تخطت لبنان نحو سوريا والعراق فستستمد فرنسا قوّتها في مواجهة تركيا والانتصار عليها، ووضع حدّ مع الروس الصين والإيرانيين للقطبية الأميركية التي تريد من خلال أذرعتها أخذ العالم نحو الجنون.