<
19 July 2020
لا تكن بهذه الأطروحة الوهميّة متراسًا لفريق بوجه آخر (بقلم جورج عبيد)

بقلم جورج عبيد -

 

 أكّد دولة رئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب خلال زيارته للصرح البطريركي المارونيّ في الديمان عددًا من المسلّمات الضروريّة والجوهريّة مستندًا على صلابة الموقف الرئاسيّ منها:


• لن يستقيل، فالاستقالة جريمة بحقّ لبنان.
• انتقاد الحكومة حقّ ديمقراطيّ كفله الدستور، وليس من مشكلة في هذا الأمر.
• الحرب على لبنان بعمقها الماليّ والاقتصادي ببعديها الداخليّ والخارجيّ لا تستهدف الحكومة بل تهدف إلى إسقاط لبنان وإنهائه.
• الكلام على الحياد يحتاج لتوافق سياسيّ بين جميع اللبنانيين، وفي هذا الظرف من شانه أن يقود إلى انقسامات عموديّة خطيرة، لبنان في غنى عنها.


ميزة اللقاء مع البطريرك الراعي ذلك الوضوح التام الذي ساده. فقد جاء موقف رئيس الحكومة مكمّلاً لرئيس الجمهوريّة في التحديدات الجوهريّة، واضعًا النقاط على الحروف. لقد أكمل الرئيس دياب ما سبق لرئيس الجمهوريّة أن أعلنه للبطريرك الراعي في لقائهما الأخير في بعبدا حول الحياد كمبدأ ومألفة، مظهرًا لغبطته خطورة الكلام في الحياد، مؤكّدًا له بانّ التشدّد به والانغلاق في حروفيّته سيشطر البلد ويمزّقه. في المقابل شرح البطريرك موقفه من تلك الأطروحة مبرّرًا طرحه لها ومعتبرًا بأنّ الحياد مبدأ إنقاذي شموليّ وليس فيه معاني التجزيء. غير أن الرئيس دياب أبدى ملاحظاته في سياق الحديث مظهرًا للسيد البطريرك، بأنّ الإضاءة على هذه المألفة محفوفة بالانعكاسات السلبيّة، لا سيّما من ناحية التفاسير المرتبطة بالأهداف المبيّتة وغير المبيّتة. ثمّ شرح له دولته ما تعيشه الحكومة من ظروف معقّدة للغاية. فهي أتت لتعمل، وتنقذ البلد من آفاته وأمراضه، وتنتزع من جسده الأدران الخبيثة، فما إن بدأت بالعمل حتى شنّت الحرب عليها بشراسة، مؤكّدًا بأنّ الحرب خارجيّة بلباس محليّ، وهي فعليًّا قائمة بالعمق، وهي تنطلق من الهجوم على الحكومة وعلى رئيس الجمهوريّة بهدف واحد وهو إسقاط لبنان بتوازناته ونظامه الاقتصاديّ الليبراليّ وأخذه إلى مجهول خطير سيحاول الانطلاق من لبنان للإطاحة من جديد بالمشرق لتكوين نظامه هو.
كان اللقاء وبحسب ما تبيّن طيّبًا وهادئًا على شرفة يطيّبها أريج الوادي المقدّس، ويحمله النسيم إلى الصدور والقلوب، والبهاء كلّه ماثل امام البطريرك وضيوفه بجمالات نحتها الله كجمال قال أفلاطون بأنّه ناطق بالحق.


ليس الهمّ في تلك العجالة الإضاءة الحصريّة على اللقاء بأجوائه ومضمونه، حسب دولته أنّه أكّد وبكلّ سرور حرصه وخوفه على وطن تجتاحه العواصف من كلّ حدب وصوب، وتشلّعه بقوّة وتسلّعه بخبث وكأنه هباء منثور في فضاء مجهول. فالمصالح بحسب مفهوم دولته لما يحدث تتجلّى وكأنها فوق البلد والكيان، وليس أنها تنطلق من مفهوم لبنان أوّلاً. وفي الأصل وكما شرحنا في مقالنا السابق، إنّ مفهوم لبنان أوّلاً وجد لهدف واحد تلطّى به من أوجده إلى جانب خلاّنه ورفقائه ليس كرمى بالبلد أو من أجله، فهذا هراء وسذاجة، إذا ظنّ بعضنا بأنّ هذا المبدأ راسخ. بل إنّه منطلق من معادلة هادفة ورانية إلى نهاية النظام في سوريا، فمتى انتهى النظام وهو لم ولن ينتهي عاد الجميع إلى مقررات مؤتمر الساحل خلال سنتي 1932 و1936، وفيه رفض السنة التخلّي عن سوريا بل اعتبروا انّ الكيان اللبنانيّ جزء من سوريا.


الهمّ الآن إنقاذ لبنان من هذا الجحيم الذي زّج فيه. لا شكّ بأنّ البطريرك الراعي فهم من ضيفه الكريم بأنّ الحرب على لبنان أميركيّة. لم ينطلق دياب إلى الديمان فقط للشرح بل للحضّ على تغيير الوجهات والتوجّهات. وقد أعلن ذلك أمام الوسائل الإعلاميّة قائلاً بأنّ البطريرك لجميع اللبنانيين. بالنسبة لفئة كبرى في لبنان، المهم أن يفهم أن دوره غير محصور بالأدوار التي أعدها لنفسه أو قد تكون معدّة له، بل منطلق إلى كلمة سواء، وإلى المساهمة في إنقاذ لبنان، المهم أن يحرّر المتابعين أجمعين من سوء فهم خطير إزاء وتجاه طرحه قاد لبنان طيلة أسبوعين إلى انقسام عموديّ وخطير. ويخشى عدد من المراقبين أن يكون البطريرك قد استدخل نفسه في اصطفاف واضح المعالم والتوجّهات، وهذا الاصطفاف هو الأخطر في تاريخ البطريركيّة المارونيّة.


وعلى هذا تنبّه بعض الأوساط المراقبة بأنّ البطريرك بحال استمرّ في أطروحته فسيقود لبنان حينئذ إلى احتراب سياسيّ واضح لأن أطروحته في الزمن الراهن لن توحّد اللبنانيين، بل على العكس تمامًا ستجمع تحت جبّته كلّ الأذرع الأميركيّة المناوئة للعهد والحكم والحكومة، وستعتبره مرشدها وأباها فيما بعضها حتى يوم أمس كان قد اعتبره مناوئًا له. وسيبدأ من تحت جبته إطلاق النار باتجاه معسكر أو جبهة يوصّفونها بالإيرانيّة أي جبهة الممانعة، فيغدو غبطته (وهنا الخطورة) متراسًا لفريق بوجه فريق آخر.
إنّ طرح مفهوم الحياد ليس حميدًا في تلك الظروف. كما أنّ الهجوم على الحكومة بدوره وبلا بدائل جوهريّة خطير للغاية.


وتستغرب اوساط سياسيّة رؤية صاحب الغبطة، متسائلة كيف يمكن للحياد أن يطبّق وفي لبنان نازحون سوريون لا يزال ديفيد شينكر يرفض عودتهم إلى سوريا ويتصرّف كمفوّض أعلى سموًّا من السفيرة الأميركيّة في لبنان دوروثي شيا، مقابل إصرار فخامة رئيس الجمهوريّة على عودتهم بالاتفاق مع سوريا والدول المعنيّة بهذا الملفّ؟ هل يتذكّر البطريرك بأنّ المجتمع الدوليّ مصرّ وبشدّة على دمجهم في الداخل اللبنانيّ، أي تذويب خصوصيتهم السوريّة ليصيروا جزءًا لا يتجزّأ من النسيج اللبنانيّ فيحدث الخلل الديمغرافيّ؟ كيف يمكن للحياد أن يرسّخ يا صاحب الغبطة وفي لبنان مخيمات فلسطينيون، ينطلق الأميركيون من صفقة القرن تجسيدًا وترسيخًا باتجاه توطينهم في لبنان، وهم يعمدون إلى جانب الإسرائيليون على إنهاء الضفّة الغربيّة ليحلّ مكان الفلسطينيين مستوطنون يهود، وهذا أكبر عامل على تأكيد مبدا التوطين في لبنان خلافًا لاتفاق الطائف وقد أمسى دستورًا. كيف يمكن للحياد أن يتجلّى شكلاً ومضمونًا والأتراك تحت ذقن السيد البطريرك في طرابلس وعكار والضنيّة يهبون الجنسية التركيّة لأكثر من خمسة آلاف لبنانيّ ويعيدون إلى ذلك المدى جبهة النصرة كخلايا منتظمة ومنتظرة ساعة الصفر للهجوم، مع توزيع المال والسلاح بالاتكال على قطر، وبتنافس واضح مع السعوديين والإماراتيين؟ كيف يمكن للحياد أن يصير واقعًا ولبنان غابة استخبارات تتنافس على أرضه وصالون للسفراء يملون شروطهم ويوظّفون رؤاهم، ورصيف باريسيّ ملقى على مفترق طرق مرميّ في الليل ومتروك للأقدار؟


وفي الختام نصيحة للبطريرك، لبنان ليس دمية، لبنان وطن وحقيقة. لا تكن متراسًا لفريق ضدّ فريق آخر في لبنان، ولا تسمح للسفارات بأن تعبث في حياتنا وتدمّر وطننا، وتذكّر في النهاية أنّ مجد لبنان وبحال أصررت على أطروحتك لن يعطى لك، وهو في الأساس للمسيح يسوع، ومجدك من مجده. واستذكر أنّك لست بطريرك لبنان أو حتى جزء من لبنان، بل انت بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للكنيسة المارونيّة الحبيبة.