<
26 March 2020
اللواء جورج قمير: شموخ أرز تنورين - بقلم أنطوان فضّول

ولد اللواء الطبيب جورج قمير في تنورين في العام 1924، توفي يوم الخميس 19 آذار 2020.

نشأ في عائلة نهلت من القيم الوطنية ومن منبع الأصالة والروح المسيحية، وتجذرت في ظلال أرز تنورين وعلى مساحة جغرافيتها الغائرة في الزمن والحضارة والمتطلعة إلى آفاق الدنيا.

بهذه الثقافة تحضر لمسيرة بناها مدماكًا فوق مدماك، ورصفت أرضيتها يده المعطاءة إلى أقصى حدود العطاء، فكان كلما تبوأ منصبًا وعلا مرتبة، لا يتردد في الإسهام في رفع مستوى بلدته وأبنائها. وكلهم يشهدون على ما أعطته يداه من عطاءات خيرة وعلامات فارقة، ميّزته وتوّجته وجعلته يحوز إجماع الجميع ومحبتهم واحترامهم.

توزعت دراسته بين تنورين وجونية (مدرسة الإخوة المريميين Frere Mariste ومعهد الرسل).

تلك الخيمة في اللقلوق الرابضة على تلة يصعب للمرء أن يصل إليها تشهد لجديته ورصانته واجتهاده ومثابرته. كان يهرب، إذا صح التعبير، من الناس ليتنسك في تلك الخيمة ويلتحف بوشاح نسكي، بعيدًا عن الأضواء والضجيج واللهو، ينخطف إلى عالم العلم والدراسة المعمقة والغوص في محيط التحصيل الجامعي. فتمر الساعات وهو يقرأ ويكتب ويحفظ ويطوي الصفحات، فتتراكم الحقائق العلمية في عقله المتنور، راسخة، جاهزة للبروز عند أي استحقاق. بهذه المنهجية أقبل على الامتحانات مستعدًا كل الاستعداد. فلم يحصد النجاح فقط بل التفوق أيضًا.

أما تحصيله الجامعي فبدأه في السنة 1945 ملتحقًا بالمدرسة الطبية في جامعة القديس يوسف ومتخصصًا في الطب. تقدّم إلى امتحانات الدخول مع مئة طالب، وحل في المرتبة الرابعة.

إنطلق في دراسته الجامعية التي دامت سبع سنوات، أنجزها بتفوق. في الوقت عينه، كان يتردد على المستشفى العسكري ويتدرّب في مستشفى بعبدا الحكومي وأوتيل ديو لسنة واحدة، حاز في نهايتها الشهادة. كما حل في المرتبة الأولى في امتحان الكولوكيوم سنة 1952.

بعد نيل شهادة الكولوكيوم، حبه للخدمة العسكرية جعله يلتحق بالجيش ويبدأ دورته في المدرسة الحربية لثلاثة أشهر حيث نال إعجاب قيادة الجيش بعلاماته المتفوقة.

بدأ يمارس مهنة الطب وهو لا يزال طالبًا. سرعان ما صار عنوان الطبابة في المنطقة بأسرها.

ومع دراسته في الحربية، بدأ الخدمة في المستشفى العسكري، حيث ازدادت شهرته واعتمده الضباط طبيبًا ومرجعًا صحيًا يطلبونه إلى منازلهم لتطبيب عيالهم. وصار اسمه يتردد في أوساط قيادة الجيش حتى وصل إلى مسامع اللواء فؤاد شهاب.

نقله الزعيم برجاوي إلى قاعدة رياق الجوية حوالي سنة 1953، حيث كانت خدمته مقتصرة على فترة قبل الظهر فقط. تقدم بطلب السماح له بالعمل فترة بعد الظهر في مستشفى زحلة الحكومي، يساهم في طبابة العسكريين والمدنيين.

هكذا تخطت شهرته مساحة القاعدة العسكرية ووصلت أصداؤها مختلف نواحي البقاع، وأقبل إليه البقاعيون بأعداد غفيرة يقصدونه للطبابة والاستشفاء والمعالجة.

بقي هاجسه الكبير متابعة تخصصه في الطب إلى جانب تعمّقه في علم المختبر والعلوم الصحية التطبيقية وفي الأشعة، وكان مستشفى أوتيل ديو يؤمّن هذه الدراسات. 

ودع قمير البقاع إلى طرابلس حيث أمضى ثلاث سنوات، فذاع صيته العطر وقصده اللبنانيون من مختلف المناطق الشمالية إنطلاقًا من طرابلس وصولاً إلى بشري، ومن مختلف الطوائف والانتماءات، فترسخت علاقته بهم ونمت صداقات لم تقو الحواجز الأمنية اللاحقة وأهوال سني الحرب على ردمها.

في طرابلس لم يقتصر عمله فقط على العسكريين، وإنما طبب الأهالي المدنيين ثم انتقل إلى بيروت سنة 1958 والتحق بالمستشفى العسكري في بدارو، وتولى التطبيب في قسم الأمراض الداخلية مدة سنة ونصف قبل أن يرسل إلى باريس للتخصص في حقل الأشعة، وأمراض المعدة، ومتابعة الدراسة الجامعية في الجامعة الطبية في العاصمة الفرنسية.

عاد إلى لبنان بعد سنتين حائزًا شهادة في الأشعة من جامعة باريس.

إلتحق مجددًا بالمستشفى العسكري في بدارو مترئسًا قسم الأشعة. وكان له الفضل في تطوير جراحة الرأس والأعصاب، وفي بناء علاقات راسخة مع مختلف مستشفيات لبنان، كما مع الصليب الأحمر.

كان هاجسه الأول بناء مستشفى حديث. لم تقتصر جهوده على جذب السلك الطبي للخدمة العسكرية بل سيرته ومساعيه دفعت بأعداد كبيرة من الشبان للالتحاق بالخدمة العسكرية قادمين من مختلف المناطق التي خدم فيها.

إنتماؤه إلى الجيش اللبناني لم يحجب رسالته الإنسانية وخدمته الطوعية لكل متألم وضحية حتى أولئك الذين وقفوا على تماس مع المؤسسة العسكرية وضباطها ورجالها.

رغم المعارك الضارية التي خاضها الفلسطينيون ضد الجيش، لم يتردد اللواء قمير في نجدتهم داخل مخيماتهم وإجلاء الجرحى من بينهم ونقلهم إلى المستشفى العسكري وسائر المستشفيات.

إلى ذلك أنشأ بنك الدم وغرفة العناية الفائقة في المستشفى العسكري وهما مشروعان تبناهما الجيش اللبناني للمرة الأولى في عهد اللواء قمير وبتوجيه منه.

نجح في تطوير قسم الأشعة في المستشفى العسكري في بدارو مستقدمًا الآلات المتطورة وأطلق حملة تدريب لطاقم من العسكريين الممرضين، وخدم صحة العسكر بتجرد طيلة اثنتي عشرة سنة.

تقديرًا لجهوده القيمة ورؤيته الناهضة وثقة بمقدرته العلمية والإدارية، عُيّن مديرًا للصحة ورئيسًا للمستشفى العسكري، وهي المرة الأولى التي تسند إلى شخص واحد هاتان المسؤوليتان مجتمعتين.

حين اندلعت الحرب، لم يكن لبنان مؤهلاً لمواجهة تداعياتها... بل كانت تنقصه كل مستلزمات الصمود بما في ذلك قطاع الطب والخدمة الاستشفائية.

أبرق إلى رؤساء الأقسام في المستشفى العسكري، يحثهم على القيام بكل ما يلزم لتحسين الخدمة الاستشفائية وتطوير الأداء وضبط الإدارة واتخاذ التدابير الكفيلة بمواجهة الطوارئ.

لم تنحصر اهتماماته بالناحية الإنقاذية والاستشفائية، بل تخطتها إلى باقي النواحي، بما في ذلك تخزين الأرز والعدس والمؤونة الضرورية والكافية لتغطية حاجات المرضى والجنود. كما أنه سعى جاهدًا إلى تأمين الرواتب بصورة مستمرة دون انقطاع . وعندما شعر أن الرواتب لن تصل إليه عمد إلى رهن صكوك أرض يمتلكها لدى البنك اللبناني الفرنسي في الأشرفية ليسدد معاشات الموظفين والجنود الخاضعين لأمرته.

على يده غدا المستشفى العسكري من أهم المستشفيات في لبنان وارتقى مستوى وأداء وخدمة.

وإلى سعيه الدائم في سبيل تطوير الخدمة الاستشفائية والطبابة، عمد إلى زيادة رواتب الطبيب العسكري، مما جذب، إلى الخدمة الطبية العسكرية، أطباء جددًا وذوي مستوى عال. 

بعين مسؤولة ساهرة راقب المستشفيات ومستوى خدماتها. ويعود له الفضل في إطلاق الطبابة المجانية في الجيش على عهد قائد الجيش فكتور خوري وقد اعتمدت للمرة الأولى خلال ترؤسه المستشفى العسكري وإدارة الصحة وكان سبق له ان طرح الفكرة في عهد الرئيس فؤاد شهاب يوم تشكلت لجنة لتحسين اوضاع الجيش، كان هو من عدادها.

أسهم في تطوير جراحة الرأس والأعصاب، وفي ترسيخ العلاقة بين المستشفى العسكري ومختلف مستشفيات لبنان. حتى أنّه خلال الحرب نجح في إنقاذ المستشفى العسكري من الدمار والنهب حين نقله، عدّة وعديدًا، إلى مستشفى الحايك في سن الفيل وباشر نشاطه فيه لسنوات عديدة.

وفي الواقع، لكل ضابط في الجيش اللبناني قصة مع اللواء جورج قمير حاكت فصولها روحه الأبوية المعطاءة وحكمته الأصيلة، وخبرته العملية ومقدرته العلاجية ومعرفته الدقيقة في أصول الطبابة ومبادئ العناية الاستشفائية الحديثة.

لم يبعده الطب كما الخدمة العسكرية عن تعلقه بالأرض وتخصيص الوقت الكبير لحراثتها وزراعتها والعناية بها.

كما أنّه كان يمضي عطلة نهاية الأسبوع في تنورين مداومًا في مستوصفها يعالج المرضى.

بعد إحالته إلى التقاعد سنة 1983، انطلقت مسيرة جديدة في حياته، عاش خلالها قريبًا من عائلته وفي غالب الأحيان يسافر للإقامة مع أولاده في عالم الاغتراب دون أن يتخلى عن واجبه كطبيب يستمر في طبابة الضباط المتقاعدين كما كل عنصر من عناصر الجيش يقصده لعلة مرضية.

أبناء تنورين المقيمون والمغتربون أجمعوا على ترشيحه إلى رئاسة البلدية وقد محضوه ثقتهم فانتخبوه لست سنوات قام خلالها بما يشبه التحول الكبير في البلدة متبنيًا مشروعًا إنمائيًا متكاملاً نهض بكل قطاعات تنورين ورفع من مستوى الحياة فيها.

ما ميّز اللواء جورج قمير حنوه على عائلته، زوجته واولاده وأحفاده، يجمعهم كما يجمع الصليب دفتي سبحة الوردية، يوحدهم في النبل والأخلاق والشيم والوطنية، وهم يستمدون من شخصيته الرائدة أسمى الشمائل فيتعلمون منه كيف يساهمون في إنقاذ البلاد من حالة احتضاره وآلامه وكبوته، ومن وحي سيرة والدهم اللواء يسطرون على أوراق يوميات هذا الوطن أشرف المحطات والمواقف في ذاكرته وحاضره ومستقبله.

فلترقد روحه بسلام. ستبقى ذكراه حيّة، خالدة خلود أرز تنورين.