<
26 November 2019
التسوية أفضت إلى حكومة جديدة، وما حدث مع الأكراد في سوريا حدث مع معارضي العهد - بقلم جورج عبيد

هل دخل لبنان عصر تسوية جديدة تنقله من حال الفوضى الخلاّقة إلى انتظام خلاّق يقوم على تكليف وتأليف سريعين؟ ما سرّب إلى الآن من معلومات ليس شديد الوضوح بالمطلق، إذا سلمنا جدلاً بأنّ الضباب الكثيف بات في مراحله النهائيّة، والفضاء كما التلال والجبال أيلة إلى الانقشاع وبدء مرحلة الصفاء.

بعض الرؤى الواردة خلف البحار كشفت بأنّ الخلاف البنيويّ الأميركيّ أو الانقسام العموديّ في أميركا جول لبنان ولأوضاع فيه بين الإدارة العميقة المؤلّفة من صقور سابقين وحاليين، من أمثال إليوت إنكل وجيفري فيلتمان وديفيد شينكل وديفيد هيل ومايك داندريا (مايك بومبيو غير بعيد في المطلق عن رؤاهم) والبيت الأبيض وعلى رأسه دونالد ترامب وجوزف بايدن، قد حسمه ترامب حسمًا قاطعًا ببيان كشف فيه بانّ "جيف العزيز" لا يمثّل بورقته المقدّمة إلى الكونغرس الأميركيّ الإدارة الأميركيّة ولا يعكس، تاليًا، رايها، وبالتحديد رأي الرئاسة الأميركيّة. بل جاء موقفه في سياق المزايدة على إدارة ترامب. وهنا لا بدّ من الوقوف أمام برقيّة التهنئة التي أرسلها الرئيس الأميركيّ لنظيره اللبنانيّ في مناسبة عيد الاستقلال، آملاً الوصول إلى تعاون وثيق مع الحكومة العتيدة. برقيّة مهذّبة ولطيفة كهذه، كافية لدحض رؤية فيلتمان ومن خلفه ومن معه، وإبداء ليونة واضحة ومجديّة تجاه الأوضاع اللبنانيّة.

في بيان وتبيين واضحين، اللقاء الذي تمّ في باريس منذ أسبوع بين ديفيد شينكل وريتشارد مور والمشرف الفرنسيّ على الملفّ اللبنانيّ، خلص إلى عدم التورّط في الوحول اللبنانيّة، ومن ثمّ عدم جرّ لبنان للغرق بها. لقد اقتنع الأميركيون من الفرنسيين والإنكليز أن ارتفاع منسوب التحريض على العهد وحزب الله لن يجدي نفعًا لكون نتائجه ستكون بعكس ما يشتهي الأميركيون. بل على العكس أيضًا إنّ الاتجاه نحو كسر الاستقرار اللبنانيّ بمعاييره المعروفة، وبأبعاده كافّة الاقتصاديّة والماليّة والأمنيّة سينعكس سلبًا بدوره على المصالح الأميركيّة والغربيّة على السواء، وقد يستغلّها كثيرون للتسلّل إلى الأرض اللبنانيّة، مستغلّين الحراك، والقيام بأعمال إرهابيّة كتلك التي حصلت في سنوات غابرة، وبخاصّة، إذا ما تمّ الاعتداء على مراكز تخضع ضمنًا لأميركا من جامعات وما إلى ذلك، أو على منظمات أوروبيّة، وحتمًا لن يكون حزب الله هو المعتدي، بل قد تكون منظمات إرهابيّة تتسلّل تحت جناح الطلام ضمن عمليات انتحاريّة، لن يكون الحراك في وسط بيروت بمنأى عنها.

هذا الاحتساب المقنع، أخذه الأميركيون عل محمل الجدّ، وأجروا من جهتهم جردة حساب، أفضت في النهاية إلى تسوية واضحة بينهم وبين الأوروبيين والروس، ضمن عنوان واضح تأليف حكومة تكنو-سياسيّة، وقد وافقت إيران على مضمونها بواسطة ما سرّبه الفرنسيون إليها.

كيف ستتجسّد التسوية على أرض الواقع؟

بات واضحًا ومعلومًا، بأن زيارة الموفد الإنكليزيّ ريشارد مور البارحة، لم تكن لمجرّد الاكتشاف والمراقبة، بل كانت باتجاه الكشف والمواكبة. مصادر مواكبة أعلنت بأنّ مور نقل إلى من التقاهم نتائج اللقاء الباريسيّ الطويل، والخلاصة، بأنّ الطريق معبّدة نحو تأليف حكومة يشترك فيها حزب الله، بمعنى أن ليس من فيتو عليه بعد الآن. وبالتالي، فإنّ المجتمعين داعمون للجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة بالحفاظ على الأمن الداخليّ للبنان، وهم غير راضين عن مسألة قطع الطرق ومنع اللبنانيين من التنقّل لتأمين مصالحهم، "فلا يتبنّون أيّ عمل ميليشياويّ يعيد لبنان إلى أزمنة الحروب، وهم حريصون على أن تستكمل الحياة الطبيعيّة في البلاد.

عاد مور إلى لندن، فجاءت زيارة السفير الروسيّ في لبنان ألكسندر زاسبيكين إلى رئيس الجمهوريّة ضمن مسلّمتين واضحتين:

1-المسلّمة الأولى بأن روسيا تقف إلى جانب لبنان بكلّ تكاوينه المعروفة، وهي تدعم كلّ خطوة يحافظ فيها اللبنانيون على بلادهم في اللحظات الذروى ببعديها الجيو-استراتيجيّ، والجيو-سياسيّ.

2-المسلّمة الثانية بأنّ روسيا لم تكن يومًا ضدّ الحراك بمطالبه الحياتيّة، ولكنّها ضدّ استغلاله أميركيًّا ودوليَّا ليكون منصّة لأحزاب مناوئه للعهد عملت وتعمل على أسقاطه بكافة الوسائل والطرائق.

غير أنّ روسيا بهذا الموقف، لم تكن بجوهره بعيدة عن اللقاء الباريسيّ الطويل. بل كانت محفّزة له بدءًا من الموقف الذي أطلقه وزير خارجيتها سيرغي لافروف، حين قال بأن لبنان لا يحتمل سوى حكومة تكنو-سياسيّة في هذا الظرف. جاء كلامه إيذانًا بفتح الأبواب نحو التسوية وفقًا لمسلّمة أساسيّة لا حياد عنها في الأدبيات الروسيّة، وهي أنّ لبنان لن يكون شوكة أميركيّة في خاصرة سوريا، أي في خاصرة روسيا. وقد تبيّن للروس أنّ علّة علل هذا الحراك، لا تكمن في المطالب الحياتيّة المحقّة. بل علّته أنّه ببعض أوجهه انطلق من توضيب أميركيّ تمثّل بتغلغل الأضلع اللبنانيّة الثلاثة في جوفه وهي الأذرع العاملة في إسقاط النظام. والسبب في كلّ ذلك، حنق الأميركيين على الدولة اللبنانيّة بتلزيم شركة نوفا-تيك الروسيّة مضخّة طرابلس النفطيّة والمعروفة بالتايبلاين، حيث انابيبها تتواصل مع طرطوس وبانياس والعراق، ويتمّ ضخّ قاعدة حميميم بنفطها، وبتلزيم شركة توتال الفرنسيّة بالحفر في البلوك التاسع. لم يفهم أحد بانّ طرابلس وبخاصّة مضخّتها موقع استراتيجيّ بالنسبة لروسيا. بفترض أن يفهم اللبنانيون بأنّ الحرب على سوريا سببها الجوهريّ نفطيّ، وما يحدث في لبنان من استغلال لاقتصاده وواقعه وحراكه سببه أيضًا نفطيّ. كلّ لحروب والحملات في التاريخ أسبابها اقتصاديّة بالدرجة الأولى، ألا يفترض بنا أن نفيق من سباتنا؟

على هذا، سيقبل لبنان على هذه التسوية الجديدة بحكومة فاعلة ومتوازنة، وتمثّل مروحة واسعة من السياسيين والتقنيين وأهل الحراك. وسيكون حزب الله بدوره ممثّلاً فيها. عدم ترؤس الرئيس سعد الحريري لها عائد إلى فهمه جوهر التسوية بشقّها الجيو-سياسيّ والجيو-اقتصاديّ وعجزه أو رفضه للتواصل معها. لقد وضع شروطًا تعجيزيّة كمحاولة يائسة منها إعطاؤه صلاحيات دستوريّة واسعة وعدم التواصل مع سوريا، فوجد الجواب بأنّ هذا مستحيل. فالتسوية في سوريا ماضية نحو خواتيمها بين معظم الأفرقاء المعنيين بها، والرئيس بشار الأسد أبدى في حديثه الأخير استعداده الواضح بالمضيّ نحوها، واكتشف الأميركيون استحالة أن يكون لبنان مستوعبًا لأوراق تواجه التسوية فيها والانقطاع عنها وعدم التكلّم معها بمسألة عودة النازحين وفتح الطريق التجاريّ نحو العالم العربيّ من معبريّ النصيب مع الأردن والبو-كمال مع العراق. وللإيضاح اكثر، ما حدث مع الأكراد حدث بطريقة ناعمة، أو أكثر نعومة مع الرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، ومع اهل الحراك المنضووين إلى ذلك المدى بالامتدادات السياسيّة وأبعد منها.

لقد سقط مشروع الانقلاب على العهد ولم يعد بمقدوره الاستمرار في العبث. وإذا ساغ لي بملاحظة شخصيّة، فإنّني في إحدى إطلالتي التلفزيونيّة حذّرت من البلوغ نحو تلك النتائج الدراماتيكيّة، وأعلنت للجميع بأن من يشتريك يبيعك. لقد باع الأميركيون هؤلاء إلى الروس بواسطة الأوروبيين، والثمن هو شراكة نفطية مستقبلية في لبنان، وشراكة إعماريّة في سوريا. لقد ثبت بأنّ رئيس الجمهوريّة ميشال عون وحزب الله قاعدتان رئيسيّتان لمرحلة جديدة بدأت بواكيرها وبشائرها تلوح مع حكومة جديدة تعدّ العدّة لتوسيع الورقة الإصلاحيّة وتحصين القضاء ومكافحة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة، برئاسة شخصيّة تحظى بثقة الجميع ورضاهم. فيتمّ التحوّل من الاقتصاد الريعيّ إلى الاقتصاد المنتج، ولبنان مع لحظة ستدرّ عليه الخير مع مطلع السنة الجديدة، مع حفر أول بئر نفطي له.

إلى الحكومة الجديدة نحن ماضون مع دعوة فخامة الرئيس لاستشارات ملزمة متوقعة مع نهاية الأسبوع أو مطلع الأسبوع القادم ليتم بعد ذلك التأليف، فيرتاح لبنان وتكون لنا مع ولادة تلك الحكومة أعياد مباركة تجلب لنا الوئام والسلام، لا سيّما مع ميلاد يسوع مخلّص العالم.