<
14 November 2019
مشروع الفتن كان محضّرًا قبل حوار الرئيس (جورج عبيد)

ثلاثة أنواع فتن كانت تحضّر للبنان وكادت تعصف بقوّة وشدّة، في ظلّ اندراجنا في حمأة الفوضى الخلاّقة:

 

1-الفتنة الأولى مذهبيّة: المعدّون للفتن يعنون بتفجيرها من بوابة الجنوب. وهذه البوابة طريق أو شريان حيويّ للمقاومة نحو بنت جبيل ومرجعيون وسائر الجنوب. إنّه السيناريو الذي التبس مع حرب إسرائيل علينا في الرابع من تمّوز من سنة 2006، وكان المقدّمة الثانية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري لافتتاح الفتنة المذهبيّة بين الشيعة والسنّة في لبنان امتدادًا لما حدث في العراق وتوطئة فيما بعد لانتقالها نحو الديار السوريّة.
2-الفتنة الثانيّة طائفيّة: المعدّون أنفسهم عمدوا ويعمدون لإدخال لبنان من زاوية الفوضى الخلاّقة إلى فتنة طائفيّة تنطلق من سكب الدماء في ساحة من الساحات. لن ينسى التاريخ بأنّ المقدّمة للحرب ظهرت قبل سنتين من اندلاعها مع اغتيال الشهيد معروف سعد في صيدا رحمه الله، لتتوّجها بوسطة عين الرمانة، فماذا لو استولدت شهادة معروف سعد بآخرين؟
3-القتنة الثالثة بنيويّة أي مسيحيّة-مسيحيّة. لقد دنت المنطقة المسمّاة شرقيّة منها، جلّ الديب وذوق مصبح مرورًا بنهر الكلب وطريق القصر الجمهوريّ كانت مسارح لإمكانيّة انفجارها، وتبيّن بأنّ قطع الأوتستراد والأحياء الداخليّة بالسواتر الترابيّة استحضار "لحرب الإلغاء"، لم تكن هذه المناطق مدى للثوار بوجه الفاسدين والمارقين والقاتلين، بل للفتنويين العامدين على إشعال ما يسمى بالمنطقة بهذه الفتنة الكارثيّة.

 

ليس كلام رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون سببًا لهذا الانفجار المثلّث الأضلاع حتمًا. فالكلام فيه الكثير من البيان والتبيين ومن الاستيضاح والتوضيح، وقد ظهر صاحبه هادئًا متجاوبًا مع كلّ فاصلة من فواصل الحوار، ومطلاًّ على آفاق المرحلة المقبلة برحابة صدر ورضى نفس ورجاحة عقل. خاطئ من زعم ويزعم بأنّ خطاب الرئيس مجاف ومناف لمطالب المتظاهرين، فقد سبقهم بأشواط إليها، مؤكّدًا في متن الحديث هذه الوحدانيّة العضويّة والفعليّة مع المتظاهرين بتشديده على أن مطالبهم مطالبنا، وسيمضي مع الحكومة الجديدة نحو التأكيد عليها والتركيز بها والعمل على تجسيدها. إنّه الوعد الصادق، وعد العهد، وعهد الوعد، وفعل العقد كوجه فعّال وبرّاق لوعد سيد العهد. فالرئيس لم يخلف به ولن يخلف وسيمضي به نحو النهاية المجيدة. وحده ميشال عون قبل الرئاسة ودون سواه، من قدّم مشروع قانون استعادة الأموال المنهوبة أي المسروقة، ولمّا بلغ سدّة الرئاسة فعّل مشروعه عبر تكتّل لبنان القويّ، ولمّا وصل إلى قاعة المجلس وضع في الأدراج مغلَقًا عليه.

 

مشروع ميشال عون لا ينتج فتنة ولا حربًا، بل ينتج تلاقيًا وحوارًا وتأليفًا لحكومة جديدة عنوانها الرئيسيّ مكافحة الفاسدين من الرأس إلى القاعدة وإنتاج حالة جديدة يكون فيها المواطن سيّدًا عزيزًا وكريمًا. الأحزاب المتضرّرة هي من تنتج الحروب أو تتطوّع لها، أو تستحبّها لتطلقها بوجه مشروع الرئيس عون بصورة حصريّة. لقد افتضح الأمر على المستوى الإعلاميّ بتجنيد مؤسسات إعلاميّة لبنانيّة كقناة الجديد والMTV والمؤسسة اللبنانية للإرسال، تساندها قناة العربيّة الخاصّة بالسعوديّة للتعبئة والتحشيد والتحفيز والتنفير. هذا الإعلام وبالإزائيّة مع التحضيرات الحزبيّة، كان مستنفرًا بعيد حوار الرئيس بصورة قائقة واستثنائيّة، فنزل إلى الشارع، واستصرح الناس بالاتجاهات التي رسموها وأرادوا تعميمها وشاؤوا تبويبها. فجاء الاستصراح استصراخًا بلغ حدّ التأزيم بالصورة التي ظهرت. مجموع المؤسسات الإعلاميّة كما الأحزاب الأساسيّة كالقوات اللبنانيّة والحزب التقدميّ الاشتراكيّ وتيار المستقبل والقوى الإسلاميّة، وكما بات معلومًا، تتحرّك في الفلك الأميركيّ اللافظ من جوفه للتوضيح الذي كشفه الرئيس، والدائب على استهدافه لثلاثة أسباب جوهريّة سطع بها خطابه على وجه التحديد في الأمم المتحدة، وصولاً إلى حديثه الأخير:

 

1-دعمه للمقاومة واعتباره حزب الله، وكما تبيّن من كلامه، جزءًا من النسيج اللبنانيّ، ومن حقّه بأن يداقع عن نفسه، وهو ممثّل أكثريّ لوجدان تكوينيّ للبنان.
2-قناعته بضرورة التواصل مع سوريا في سبيل عودة النازحين السوريين إلى مدنهم وقراهم، والاستفادة من معبريّ النصيب والبوكمال لتأمين المخارج التجاريّة الضروريّة، ومساهمة لبنان في الورشة الإعماريّة داخل المدى السوريّ.
3-الشروع في الثورة النفطيّة داخل لبنان لتأمين الثروة المطلوبة للبنان من باب التحوّل من الاقتصاد الريعيّ باتجاه الاقتصاد المنتج من ضمن مشروع اقتصاديّ إنتاجيّ متكامل.

من فهم الخصوصيّة اللبنانيّة والفرادة المشرقيّة وعلاقة ميشال عون بهما، تبيّن له المعنى الجوهريّ الذي باح به المناضل الكبير والمطران المقدسيّ عطالله حنّا لكاتب هذه السطور حيث قال: "أنا أخشى بأنّ ما يحدث في لبنان يستهدف المسيحيين قبل سواهم من المواطنين..." رابطًا هذا الاستهداف بالتطاول على مقام الرئاسة في لبنان وبخاصّة بالتطاول على رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة العماد ميشال عون كرئيس قويّ وزعيم المسيحيين المشارقة. ويتبيّن في حقيقة الأمر بأنّ الأميركيين المستهدِفين للمسيحيين في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين بواسطة قوى تكفيريّة وُضِّبت ومُوِّلت وأُرسلت للقتل والقتال، يقدّمون خدمة جلّى لإسرائيل. ومن المعروف بأنّ إسرائيل تكره المسيحيين المشارقة كرهًا فائقًا، لكونهم يذكرونها بإثمها بقتل المسيح ونصره، والتعبير لعماد جوديّة، ولكونهم رواد الفلسفة الميثاقيّة في لبنان والفلسفة التشاركيّة في المشرق العربيّ. إضعاف مسيحيي لبنان هدف إسرائيلي-أميركيّ واستراتيجيّ يفوق بجوهره العمل على الاستثمار في المياه والنفط؟

 

هذا الفكر بالتحديد يعيننا لفهم المعاني الكامنة خلف الفتن الثلاثة واستيلادها من جديد على الأرض اللبنانيّة، وإذا ساغ الإيغال أكثر، فإنّ الفتنة الثالثة بعنوانها البنيويّ أيّ المسيحيّ-المسيحيّ مطلوبة أكثر من سواها بالعمق الاستراتيجيّ لإضعاف العهد مسيحيًّا كما الفتنة المذهبيّة مطلوبة بالمعنى الاستراتيجيّ لإلهاء حزب الله عن دوره ومحاولة لاستدراجه في قتال مطلوب أميركيًّا كمقدّمة لإنهائه. من هنا إنّ ما حدث في جلّ الديب والمناطق المسمّاة مسيحيًّا يصبّ على وجه التحديد في التحضير لإشعال فتنة مسيحيّة-مسيحيّة كادت الأرض تتهيأ لها ويلهبونها بها.

 

هل يعني كلّ ذلك أننا دخلنا في الخطر الفتنويّ المثلّث الأضلاع؟ تفيد معلومات بأنّ شحن الجوّ باد بقوّة، والحراك السلميّ بنقاوته وطهره وبهائه جوّف من مضمونه وأفرغ من قيمه لاسيّما الأخلاقيّة منها، وقد بدا هذا في مشاهد الوجوه الراقصة على الشاشات والاعتداءات المتكررة على المراسلات والمراسلين لا سيّما العاملين في تلفزيون ال OTV. التجويف المتعمّد أميركيًّا في الخارج وحزبيًّا في الداخل، جعل الحراك بلا آفاق وخاليًا من رؤى وبلا فهم. وفي الجوّ العام تناقلت معلومات واضحة، بأنّ الرئيس المستقيل سعد الحريري قد مارس الضغط في الشارع، وهو من الذين حضّروا لهذا الاستنفار الذي انفجر ليل أمس بغية الضغط الفعّال Chantage. أساسًا لقد تبيّن، وكما أظهرنا في مقالنا السابق، بأنّ الرئيس سعد الحريري شريك في هذا الحراك منذ أن اجتمع بمايك بومبيو. لم يفعل شيئًا لتبدبد الهواجس قبل انفجار الشارع في 17 تشرين الأول، ولم ينبثّ ببنت شفة حين سافر الرئيس إلى نيويورك ليردّ على الشائعات ويبددها كرئيس للحكومة حول الدولار والنفط والخبز وما إلى ذلك.

 

إلى أين من هنا؟ تهيمن الضبابيّة على فضاء لبنان بكليّته. ورئيس الجمهوريّة عاكف على تبديد الهواجس بالاتفاق عل التأليف قبل التكليف على قاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات في اللحظات التاريخيّة. الرئيس سيعمل على إيجاد صيغة حقيقيّة وبرنامج متكامل قبل البحث في الأسماء. ذلك أنّ العبء الاقتصاديّ والماليّ خطير للغاية، ليس لأن لا سيولة لدينا، لقد قال رياض سلامة بأنّ السيولة موجودة، بل لأنّ العنوان الاقتصاديّ مكشوف للغاية وأميركا تستهلكه من باب فرض العقوبات على حزب الله واستمرار محاصرة العهد بالعنوانين الماليّ والاقتصاديّ بشلّ الحركة في لبنان والقطاعات وشلّ المصارف أيضًا ومنعها من العمل، وقد ثبت أنّ كل يوم بلا عمل ولا مدارس وإقفال عام يخسر لبنان بحدود ال 250 مليار دولار.

 

قبل الختام، المشكلة ليست مالية، إنها سياسيّة بامتياز. والعنوان الماليّ يتحرّك في الفلك السياسيّ. ولذلك فالحكومة المنتظرة لن تكون محصورة بالتكنوقراط بل ستكون سياديّة أي بوجود وزراء سياسيين وأكاديميين، لن تكون الحكومة مرسومة على مشتهى الأميركيين، لقد دخل سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسيّة على الخطّ بقوّة وجزم قائلاً بأنّ الحكومة ستكون تكنو-سياسيّة. لقد وضع حدًّا في هذا العنوان للآحاديّة الأميركيّة المتطرفة وطموحات مايك بومبيو "التحرريّة".

 

وبعد فإنّ همّنا جميًعا أن نخرج من الفتنة والارتقاء نحو المساهمة والمساعدة في بناء ما تهدّم بحب وكبر قبل فوات الأوان.